Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
تمهيد: سورة الضحى المباركة مكية، نزلت بعد سورة الأعلى المباركة،عدد آياتها (11).ترتيب نزولها (8)، و ترتيبها في القرآن الكريم(93).
و قد ورد في فضلها عن أبي عبدالله، عليه السلام، أنه قال: "من اكثر قراءة" والضحى "في يوم او ليلة ،لم يبق شيء بحضرته إلا شهد له يوم القيامة؛ حتى شعره، و بشره، و لحمه، و دمه ،و عروقه، و عصبه، وعظامه، و جميع ما أقلت الأرض منه، و يقول الرب تبارك و تعالى: قبلت شهادتكم لعبدي و أجزتها له، انطلقوا به الى جناتي حتى يتخير منها حيث ما أحب، و أعطوه من غير مَنٍّ؛ و لكن رحمة مني و فضلا عليه؛ و هنيئا لعبدي".(1)
- من رحم الظلام يتنفس الفجر، ومن رحم المأساة يولد أمل التغيير. و عندما تأخر الوحي قليلا، وزاد قلب الرسول ، صلى الله عليه و آله، شوقا، و نفوس المؤمنين و جلا، و أراجيف المشركين انتشارا، هنالك جلجل الوحي في هضاب مكة من جديد، و شق فجرُه طريقَه الى القلوب العطشى؛ الى النور و الدفء و الحنان؛ فاستقبلته بحفاوة و وَعَته بعمق .
هكذا رحمة الله تهيئ الظروف من قبل لتكون أوقع أثرا و أبلغ نفاذا . أرأيت اليتيم حين تتناوله يد الرحمة كيف يحن على الايتام و المحرومين؟ أَوَ رأيت الضال حين يهتدي كيف يمتص قلبه الهدى كما تمتص حبة التراب الندى في ضحوة الهجير؟! هكذا يرضى المؤمن بالقدر؛ فلولا الليل إذا سجى ،لم يعرف القلبُ قيمةَ الضحى. و لولا العطش ،لم يتلذذ الكبد بشربة ماء هنيئة. ولولا التحديات، لما حدث التطور. ولولا المآسي، لما قامت القدرات .
و يبدو ان محور سورة الضحى - كما سورة «ألم نشرح «- هي هذه البصيرة التي مهدت لها بالقَسَم بالضحى، و بالليل إذا سجى؛ ثم ببيان ان تأخير الوحي لم يكن للوداع، بل لحكمة بالغة قد تكون تكريسه في النفوس. ثم ذكرت الرسول، صلى الله عليه وآله، كيف مَنَّ الله عليه بألوان النعم بعد الصعاب؛ عليه ان يسعى لإسعاد الناس و هدايتهم بكل ما أوتي من حول و قوة.
- جاء في حديث مستفيض ما يلي:
عن الامام الباقر، عليه السلام: « ان لله عز وجل ان يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه ان يقسموا إلا به».(2)
وفي هذا المعنى جاءت روايات كثيرة اخرى؛ اننا حيث نحلف بشيء نعطيه قيمة ذاتية يُخشى ان تتحول الى حالة من التقديس المنافية لصفاء التوحيد و نقائه؛ بينما ربنا حين يقسم بشيء فانه يعطيه قيمة، و يجعلنا نلتفت الى أهميته؛ كذلك في فاتحة هذه السورة القسم بالضحى حيث ارتفاع النهار، و ميعاد الانسان مع الكد و النشاط، فقال تعالى: ﴿وَالضُّحَى﴾
وما يلبث النهار ينقضي، و خلايا جسد الانسان تتلف، و اعصابه تتعب، و يحتاج الى راحة و سبات؛ فيأتي الليل بظلامه الشامل، و سكونه الوديع، و ذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾
قالوا: سجى: يعني سكن، و ليلة ساجية: أي ساكنة، و البحر إذا سجى: أي سكن .
- كما جَسَدَ الانسان بحاجة الى سبات الليل، فان روحه عطشى الى الوحي؛ أَوَليس للنفوس إقبال و إدبار؟ و كما ان الليل لا يدل على نهاية النور، كذلك تأخر الوحي لا يعكس انتهاءه؛ بل كان الوحي يتنزل حسب الحاجة، و لم يهبط جملةً واحدة ليكون أثبت لأفئدة النبي؛ صلى الله عليه و آله، والمؤمنين، و قال سبحانه:{وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}. (3)
هكذا تأخر الوحي قليلا عن الرسول، صلى الله عليه وآله، ليعرف الجميع انه ليس بشعر منه، و لا باكتتاب لصحف الأولين، و لا بإبداع من ذاته، و انما هو الوحي الذي يتنزل بأمر الله متى شاء و كيفما شاء، و لكي تنتشر أراجيف قريش و تتراكم كما انتشرت حبال سحرة فرعون فخيل الى الناس بانها سحر عظيم ، هنالك أمر الله موسى، عليه السلام، بان يلقي عصاه تلقف ما أفكوا؛ فكانت أشد وطأة، و أبعد أثرا ؛ كذلك الوحي حينما عاد الى هضاب مكة كما الضحى يأتي بعد ليل ساج فيتلاشى ظلام الاشاعات من ارجاء البيت الحرام، و تتبدد شكوك ضعاف المسلمين، و يبدأ نهار الرسالة نشيطا مندفعا .
- قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}؛ أي:ما ودعك الوداع الأخير، و لا أبغضك - حتى ولو بصورة مؤقتة - وقد اختلفت احاديث الرواة عن سبب تأخر الوحي، و يمكن الجمع بينها، و نحن نذكر، في ما يلي، طائفة منها لما فيها من فوائد هامة، إضافة الى أنها توضح جانبا من حياة الرسول، صلى الله عليه و آله، و تسهم - بقدرٍ ما- في فهم القرآن:
فقد روي عن الامام الباقر، عليه السلام، في تفسير السورة «ان جبرئيل، عليه السلام، أبطأ على رسول الله، صلى الله عليه و آله، و انه كانت أول سورة نزلت: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ثم أبطأ عليه، فقالت خديجة، رضي الله عنها: لعل ربك قد تركك فلا يرسل اليك؛ فأنزل الله تبارك و تعالى:﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾. (4)
وفي حديث آخر: ان المسلمين قالوا لرسول الله، صلى الله عليه و آله: ما ينزل عليك الوحي يا رسول الله؟! فقال «و كيف ينزل عَلَّي الوحيُ وأنتم لا تنقون براجمكم (5) و لا تقلمون اظافركم». و لما نزلت السورة، قال النبي، صلى الله عليه و آله، لجبرئيل، عليه السلام: «ما جئت حتى اشتقت اليك» فقال جبرئيل»: و انا كنت أشد اليك شوقا، و لكني عبد مأمور، و ما نتنزل إلا بأمر ربك». (6)
و روي عن ابن عباس: انه احتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما ، فقال المشركون: ان محمدا ودعه ربه و قلاه ، و لو كان أمره من الله لتابع عليه كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء(7) فنزلت السورة .
و هـذه الأسباب متداخلة؛ فقد يكون سبب تأخير الوحي الظاهر أكثر من سبب واحد، و أنى كان فقد امتحن المؤمنون، و زاد شوق الرسول، صلى الله عليه و آله ، الى الوحي، كما ذهبت إشاعات المشركين أدراج الرياح، و عرف الناس ان كلامهم باطل، و أمرهم فرط .
كما يتفجر ضحى الشمس بعد ليل ساج، و كما يتنزل الوحي بعد انقطاع و انتظار؛ كذلك الآخرة التي تتأخر زمنيا عن الأولى خير و أبقى، وعلى المؤمن ألا يستعجل النتائج فقد يكون في تأخيرها مصلحة كبرى .
و قيل في قوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى} ان له في الآخرة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابها من المسك، وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج و الخدم، و ما يشتهي، على أتم الوصف. (8)
و قال بعضهم: الآخرة تعني المستقبل، و فيها بشارة للنبي، صلى الله عليه و آله، بأنه سيفتح له فتحا مبينا .
- يبدو لي ان أعظم ما بُشر به النبي، صلى الله عليه و آله - لقاء جهاده في الله و عنائه الشديد الذي فـــاق عناء الأنبياء جميعا - كانت الشفاعة.
ذلك ان قلبه الكبير كان ينبض بحب الانسان، و هدفه الأسمى كان انقاذ البشرية من إصر الشرك و الجهل، و أغلال العبودية و التخلف و الفقر و المرض. و حتى في يوم القيامة حيث يقول جميع الناس و الأنبياء معهم: نفسي نفسي، ترى رسول الله، صلى الله عليه وآله، يدعو ربه بالشفاعة و يقول: أمتي أمتي.
وفي أشد لحظات حياته عندما نزلت به سكرات الموت، كان يقول لقابض روحه: شدد علي و خفف عن أمتي. ان هذا القلب الكبير لا يملؤه إلا حب الله و حب عباده، و لا يُرضيه سوى انقاذ عباد الله في الدنيا من الضلال بالدعوة و الجهاد، وفي الآخرة من النار بالشفاعة؛ و لذلك جاءت الآية التالية و هي قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ تفسيرا للآية السابقة.
وماذا يُرضي الرسول، صلى الله عليه و آله، غير الشفاعة في أمته؟ من هنا؛ جاءت الرواية المأثورة عن الامام علي، عليه السلام، حيث قال: «قال رسول الله، صلى الله عليه و آله: يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيت يا محمد ! فأقول: يا رب رضيت». (9)
و روي عنه، عليه السلام، انه قال لأهل القرآن: «انكم تقولون ان أرجى آية في كتاب الله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقطنوا من رحمة الله}، قالوا: إنا نقول ذلك، قال: «و لكنا- أهل البيت - نقول: ان أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى» ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾. (10)
و في حديث آخر: «إنها الشفاعة ليعطينها في أهل لا اله إلا الله حتى يقول: رب رضيت». (11)
و قد اتعب رسول الله، صلى الله عليه و آله، نفسه، و حمل ذوي قرباه على أصعب المحامل من أجل الله، و لبلوغ درجة الوسيلة (التي أظنها هي الشفاعة بذاتها).
جاء في حديث مأثور عن الامام الصادق، عليه السلام «انه دخل يوما على فاطمة، عليها السلام،و عليها كساء من ثلة الإبل، و هي تطحن بيدها، و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله، صلى الله عليه و آله، لما أبصرها، فقال: يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله عليَّ: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾. و قال الصادق، عليه السلام: «رضا جدي ان لا يبقى في النار موحد». (12)
- لقد ترعرع رسول الله، صلى الله عليه و آله، يتيما، فقد والده وهو لا يزال في بطن أمه، ثم فقد والدته فــي الطفولة المبكرة، و ذاق - كبشر - كل ما يعانيه يتيم الأبوين من حرمان عاطفي؛ فجعله الله ينبوع الحب و الحنان، ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى﴾.
كان رسول الله، صلى الله عليه و آله، بطلعته البهية، و جاذبيته الأخاذة، و بما حباه الله من بركة تفيض على من حوله - مأوى القلوب التي تهوي التقرب اليه و تتنافس على خدمته. ألم تسمع قصة عبد المطلب- جده العظيم - كيف كان يشرف شخصياً على راحته، و من بعده عمه أبو طالب - سيد بني هاشم - يستميت في الدفاع عنه، و يفضله على أولاده في الخدمة؟
سبحان الله! كيف يتجلى بآياته للخلق؛ فيجعل يتيمَ الأبوين أعظمَ شخصية عبر التاريخ، الذي أحبه أهل الأرض و أهل السماء؛ فلم يحبوا أحدا مثله.
وقد أثار البعض السؤال التالي: لأية حكمة جعل الله خاتم أنبيائه يتيم الأبوين؟ تجيب الرواية التالية على ذلك: يقول الامام الصادق، عليه السلام: « لئلا يكون لمخلوق عليه حق». (13)
و هناك تفسير آخر لليتيم نجده في بعض النصوص سنذكره ضمن تفسير الآيات التالية؛ إن شاء الله .
------------
1) تفسير نور الثقلين ، ج5، ص585 .
2) تفسير نور الثقلين ،ج5، ص588.
3) سورة الفرقان ، الآية 32 .
4) تفسير نور الثقلين ، ج5 ،ص564.
5) أي: العقد التي تكون في ظهر الأصابع .
6) مجمع البيان ، ج10،ص504 .
7) تفسير القرطبي ، ج20،ص92.
8) مجمع البيان ، ج10 ، ص505 .
9) تفسير القرطبي ، ج20،ص95.
10) تفسير القرطبي ،ج20،ص95.
11) تفسير القرطبي ،ج20،ص97، و نص هذين الحديثين واحد عن الامام علي ، عليه السلام ، في نور الثقلين .
12) تفسير نور الثقلين ،ج5،ص595.
13) تفسير نور الثقلين ،ج5،ص595.