Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
يمثل «الاكتفاء الذاتي»، أهم عوامل نجاح الأمم وتقدمها، ويكون من خلال اعتمادها على قدراتها المادية او البشرية، وهذا يرتبط بنجاح الفرد، و أيضاً الأسرة والمجتمع بشكل عام، في كيفية تحويل هذه القدرات الى فرص للتقدم والتطور.
وقد أكد القرآن الكريم، حقيقة أن التطور والتقدم لن يكون إلا باتباع قانون «الاكتفاء الذاتي»، وجاءت آيات مباركة عديدة في هذا المجال منها: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلاًّ نُمِدُّ هَؤلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}، (سورة الإسراء: 19-20)، وقوله تعالى: {ِإَنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}،(سورة البقرة: 30)، و قوله عز وجل: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، (سورة هود:٦١).
تشير الآيات المباركة إلى العطاءات الإلهية التي تهيئ للإنسان سُبل التقدم والسعادة في الدارين، وأن الله تعالى تفضل على الإنسان واستخلفه في الأرض ليعمرها، لتكون جاهزة للحيازة على نحو الانتفاع للجميع لا للنفعية الخاصة، بوصفه خليفة في الأرض. وقد جربت شعوب عديدة في العالم هذا القانون وحققت مكاسب عظيمة في مجالات التنمية والتطوير.
ومن الشواهد الحيّة على هذا؛ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي استطاعت الاعتماد على نفسها من خلال اتباعها هذا القانون في طريقة العيش، وبذلك تبوأت مكانة عالمية، لاسيما على الصعيد الاقتصادي، فقد حققت اكتفاءً ذاتياً في مواد غذائية وصناعية عديدة، منها مواد تعرف بـ «الاستراتيجية» مثل القمح واللحوم، الى جانب منتجات البتروكيمياويات التي تدخل كمواد أولية في صناعات عديدة ومختلفة مثل المطاط والفلّين والمنظفات والأسمدة الزراعية.
وهذا إن دلّ على شيء، فانما يدلّ على أن الأمة الإسلامية تحظى بشروط التقدم، كونها صاحبة فكر وعقيدة وتاريخ وأرض وموارد وخيرات، مما منحها الله - تبارك وتعالى- لهذه الأمة، وبوجود هذه الميزة لن تكون بحاجة إلى الأمم الأخرى، بل العكس من ذلك؛ تكون الأمم الاخرى بحاجة إلينا، كما أنها ترمي إلى تحقيق أهداف مختلفة عن الأهداف التي ترمي إليها النظريات الاقتصادية الاخرى، مثل الرأسمالية والاشتراكية، التي لا ينتهي الاكتفاء الذاتي عندهم الى أهداف سامية في عمارة الأرض وإقامة الحقّ فيها وخدمة الصالح العام.
إنّ هذه الأهداف لا تقتصر على جُزئيات أخلاقيّة تتعلّق بمجموعة من البشر، بل تشمل إنتاج جميع ما يحتاجه الإنسان وسُبل توزيعه من حيازة وغيرها، وفق مبدأ إقامة الحقّ الذي يكرّم الإنسان، لذا من فطرة الإنسان التي فطر الناس عليها، هي عندما يواجه الطبيعة وثرواتها المختلفة ضمن إطار المجتمع، فإنه يفكر في حيازة أي شيء يتاح له أن يسيطر عليه ويدخره لنفسه والانتفاع به، ابتداءً من حيازة الأرض وانتهاءً بصيد البر والبحر وغير ذلك.
كل هذه الألوان المختلفة من الحيازة لها دافع فطري عند الإنسان في مواجهة الطبيعة وعلاقته الاقتصادية فيما بينه وبين افراد المجتمع، الهدف منه الاستخدام الايجابي لهذه الثروات، فعلى الإنسان أن يستغلها من أجل أحياء المجتمع ليصبح قادراً وقويَّاً، ويكون تمويله ذاتياً، وهذا ما يسمى بـ»الاكتفاء الذاتي».
أما لو قلنا إن الحيازة، هي عملية احتكار ناتجة عن التنافس على الشيء و ادخاره لنفسه، فهذا ليس له علاقة بالعملية الاقتصادية ولا يتحقق به قانون الاكتفاء، بينما الحالة الأخرى التي تتضمن الحيازة وما فيها من «شرط الانتفاع» لجميع أفراد الأمة أو المجتمع أو العائلة، فهو عمل اقتصادي ليس فيه نوع من الاحتكار، ولربما تحولت إلى احتكار بالاستفادة الخاطئة.
لذا، فمن أجل أن تتمتع الأمة أو أفراد المجتمع، بالاكتفاء الذاتي، عليهم تطبيق هذا القانون، كون الإنسان مهما يكن قوياً، فإذا ما احتاج إلى غيره، سيكون أسيراً لهم، في أبسط الأشياء، أما اذا كان مكتفيا ذاتياً سيكون نظيراً لهم، وهذا ما جاء في حديث لأمير المؤمنين، عليه السلام: «احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره». واليوم من أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية، تبعيتها للغرب في كل شيء، وهذا بسبب السياسات الفاشلة التي اتبعها الحكام الطغاة في البلاد الاسلامية، فمع الاضطهاد والتنكيل وخنق الحريات، تسببوا بهدر الثروات الطبيعية وقتل روح الإبداع و الإنتاج، وجعلوا من بلادنا سوقاً مفتوحة للبضائع الاجنبية.
إن تحقيق هذا الهدف الكبير (الاكتفاء الذاتي)، يحتاج منّا بذل مزيد من الجهد ومواصلة العمل، والى جانب مكافحة ظاهرة البطالة واليأس والضجر. جاء في رواية عن الإمام الرضا، عليه السلام: «أنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي، صَلَى الله عَلَيه وآله، لِيَسْأَله، فسمعه يقول: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، فانصرف ولم يسأل، ثم عاد إليه فسمع مثل مقاله فلم يسأله حتى فعل ذلك ثلاثاً، فلما كان في اليوم الثالث، مضى واستعار فأساً وصعد الجبل، فاحتطب وحمله إلى السوق فباعه لنصف صاع من شعير فأكله هو وعياله، ثمَّ أدام على ذلك حتى جمع واشترى به فأساً، ثم اشترى بِكرينِ وغلاماً (جاريتين بكر)، و أُيسِر، فسار إلى النبي، صلى الله عليه وآله، فأخبره، فقال، صلى الله عليه وآله: أليس قد قلنا: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله»؟
من هنا نعرف أن الذين يتقدمون في الحياة، هم الذين لا يعرفون التعب، ويعملون ليل نهار بلا كلل، بالرغم من كل المشاكل والمصاعب التي تعترض سبيلهم، إن حياة الدنيا ونعيمها ينالها عادة الذين يعملون ويجتهدون بلا ملل ولا كلل، فيعملون بكل عزيمة ونشاط.
من الممكن لنا أن تعزيز واقع الاكتفاء الذاتي، وهذا بحاجة الى خطوات عملية عديدة نذكر منها:
أولاً: ثقافة الاكتفاء، ونوعيته التي تبين لنا أهميته وضرورته في سبيل تقدم الفرد والأمة.
ثانياً: التخطيط والبرمجة، ومن ثم تطبيق تلك البرامج والأفكار في الحياة اليومية، وتحديداً في مجالات العمل؛ في الزراعة والصناعة وطريقة الاستفادة من الموارد المائية، من أنهار وآبار وبحيرات وغيرها، ففي كل هذه الحقول، يسمح الإسلام بنشوء حق خاص للأفراد على أساس الإحياء فقط، لا على نحو التمليك الخاص، كونه عملاً اقتصادياً قابلاً للاستثمار والانتفاع بالمصادر الطبيعية، مثلاً: من يُحيي أرضاً ويفتت تربتها ويخلصها من الصخور ويوفر لها المياه، فانه خلق فيها قابلية الانتفاع.
ثالثاً: اعتماد مبدأ «القناعة». إن القناعة تجعل من الضعيف قوياً، ومن الفقير غنياً، كما في هاتين الروايتين؛ عن الإمام الصادق: عليه السلام، قال: «من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل»، وعن أبي جعفر،عليه السلام، قال: «إياك أن يطمح بصرك إلى من هو فوقك، فكفى بما قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُم وَلَا أَوْلَادُهُم﴾». (سورة التوبة: 55)
رابعاً: الاستغناء عن الوسائل الحديثة جهد الإمكان، في مسيرة الانتاج والاكتفاء الذاتي، فعندما نريد الاكتفاء الذاتي من ناحية اللحوم - مثلاً- علينا الاعتماد على قدراتنا في إقامة مشاريع تربية دواجن، أو مصانع للنجارة وغيرها، باستخدام الوسائل غير المكلفة والتي من شأنها ان تكرس فينا التبعية للاجنبي، فيما نحن نعمل على الانتاج المحلي، فيكون عملنا غير ذي فائدة.
خامساً: عدم الإسراف في كل شيء، حيث أنه محرم شرعاً، وقبيح عقلاً، ومذموم عرفاً، وعدم الإسراف من بنود الاكتفاء الذاتي، وكونه ضاراً بالاقتصاد الوطني ايضاً.
وأخيراً، وليس بآخر؛ حريٌ بنا افتتاح مكتب لمقاطعة البضائع الأجنبية، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض البلاد، حيث جعلت مكتباً لمقاطعة البضائع الإسرائيلية.
نحن بحاجة الى حذف المنتوجات الغربية والشرقية، من حياتنا تدريجياً، ضمن جدول زمني حسب الألوليات، والأهم فالأهم.
إن منتوجات بلاد الشرق والغرب قد تغلغلت في حياة المسلمين، ولاسيما بلدنا العراق، فهو يحتاج التخلص منها بشيء من الحكمة والصبر والقناعة بما عندنا من منتجات مصنوعة محلياً والتشجيع على اقتنائها لتحل محل الأجنبي تدريجياً، ويجب أن يلاحظ في هذا الأمر أيضاً، وحدة بلاد الإسلام، فالمنتوجات الصادرة من البلاد الإسلامية تكون واحدة مع تواجدها في هذه البلدان، وهكذا يكون الاكتفاء الذاتي بهدف تقدم البلاد الاسلامية والامة بشكل عام، كون بلاد الإسلام واحدة والمسلمين إخوة، إلا أن يكون هناك ضرورة لجلب السلعة الأجنبية التي لا يوجد نظير لها في البلاد الاسلامية.
وهذا يتحقق بسهولة اذا التزمنا مبادئ وقيم الاسلام الحنيف التي جسدها المعصومون، عليهم السلام، في حياتهم، ومنها؛ الزهد في العيش والتخلّي عن الكماليات، ولمن يسأل عن معنى، يجيب الإمام زين العابدين، عليه السلام، في إجابته على سائل عن الزهد، فقال، عليه السلام: «...وإن الزهد في آية من كتاب الله قوله: {لكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، (سورة الحديد: 23). أي إن حقيقة الزهد قد ألمَّت به الآية الكريمة التي حذرت من الأسى والحزن على ما يفوت الإنسان من المنافع في دار الدنيا، كما حذرت من الفرح والابتهاج بما يكسبه ويظفره به من الملذات، لأنها تؤول إلى التراب. وفي كتابه «الاكتفاء الذاتي وبساطة العيش» لسماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي - قدس سره - جاء أن «الزهد هو الاقتصار على الضروريات وترك الكماليات».
وليس العبرة في العيش بالتنعم والراحة المؤقتة في هذه الحياة، بل العمل على تهيئة السبل لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومن ثم تحقيق الراحة والنعيم الدائم، وهذا بحد ذاته يحقق الهدف الأسمى من الاكتفاء الذاتي، وهو المصلحة العامة التي تجعل للإنسان الكرامة والعزة والسؤدد.