Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
إن انتماءك الى الدين الحق، لا يعني بالضرورة أن توفق دائماً للانتصار له او الدفاع عنه، فقد يقف انتماؤك هذا، حائلاً دون نصرتك له، فتضطر لأن تكتم إيمانك في قلبك وتظهر ما يرغب فيه أعداء الدين، متّقياً بذلك نفسك وأهلك ومالك، وسائراً في سبيل تقوية جانب الحق دون أن يشعر الأعداء بذلك.
وإظهار الكفر مع عقد القلب على الإيمان، هو الطرف النقيض تماماً من النفاق الذي يظهر فيه الشخص إيماناً لا جذور له في قلبه، وإخفاء الكفر ونوايا السوء في كوامن نفسه، وإخفاء الإيمان لا يقلل من درجة إيمان المرء فحسب، بل قد يرتقي به الى الدرجات العلى، بحسب الظرف المعاش فيه والخدمات التي يقدمها لدين الحق ومذهب الصواب واتباعه.
وهكذا شرّع الإسلام «التقية» حيث قال الله سبحانه:
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ في شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً}، (سورة آل عمران: 28).
وقد أباح القرآن الكريم للمؤمن أن يظهر كلمة الكفر في الظروف القاهرة حفاظاً على دمه، حيث قال سبحانه وتعالى:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمان}، (سورة النحل: 26)، حيث نزلت في حق عمار بن ياسر حين أكرهه المشركون على الكفر، فأرضاهم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وآله: «يَا عَمَّارُ، إِنْ عَادُوا فَعُدْ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَكَ فِي الْكِتَابِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَعُودَ إِن عَادُوا»(1).
بل وقد أمر المعصومون، عليهم السلام، أصحابهم باستعمال التقية في بعض الأزمان، حيث قرنوها بالدين الحنيف، وساووا تارك التقية بالجاحد لأمرهم عليهم السلام، كما قال الإمام الصادق، عليه السلام، لأحد أصحابه: «يَا مُعَلَّى إِنَّ التَّقِيَّةَ دِينِي وَدِينُ آبَائِي وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَهُ يَا مُعَلَّى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ فِي السِّرِّ كَمَا يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ فِي الْعَلَانِيَةِ يَا مُعَلَّى إِنَّ الْمُذِيعَ لِأَمْرِنَا كَالْجَاحِدِ بِهِ»(2).
والمتأمل في سيرة المعصومين، عليهم السلام، مع بعض أصحابهم، نجد دقة حركتهم ولطافة تدبيرهم في أن يأمروا بعض الأصحاب بكتمان إيمانهم ليقوموا بمهام تخدم الإيمان والمؤمنين، كما حدث ذلك بالنسبة لعلي بن يقطين، أحد أبرز وزراء هارون الرشيد الذي لم يكن لينجح في هذا المنصب إلا باتباعه التقية، وذلك من أجل خدمة المؤمنين والحفاظ عليهم، ومن قبل ذلك كان أبو طالب، رضوان الله عليه، المحامي والمدافع عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، الذي أخفى إيمانه ليستطيع ان يدافع عن شخص الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله بما لم يكن يقدر عليه لو أظهر ايمانه.
وفي القرآن الكريم ذكرٌ لتلك الشخصية المؤمنة التي كتمت إيمانها بنبي الله ورسوله، من أجل الحفاظ عليه والذب عنه، إضافة إلى ذلك الدعوة الى ما يدعو اليه النبي، بصورة غير مباشرة.
فمن كان هذا المؤمن وكيف يحدثنا القرآن الكريم عن سيرته؟
كما هو الحال بالنسبة الى سائر القصص القرآنية -والتي مرّ بعضها سابقاً- لا تركيز على الاسم والصفات الجسمية و.. بل التركيز على الموقف والسيرة، لأن الذي يهم هو العبرة والاقتداء.
ولكن بالرغم من ذلك فإن هناك نصوصاً بيّنت أن اسم الرجل كان «حزقيل» او «حزبيل»، وكان ابن عم فرعون أو ابن خاله -حسب الاختلاف في النقل-، وكان عضداً لفرعون وولياً لعهده.
شخصٌ كهذا لابد له -بطبيعة مقامه ومنصبه- أن يكون من المحاربين لنبي الله موسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام، الّا أنه اختار الهدى على العمى، مع كتمان أمر إيمانه ليتسنى له الدفاع عن النبي موسى عليه السلام.
وصعوبة مهمته وخطورتها تدل على عمق إيمانه بالله سبحانه وبرسالاته، فقد روي عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: «الصّديقون ثلاثة:
حبيب النّجّار وهو مؤمن آل يس، وحزقيل وهو مؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب، عليه السّلام، - وهو أفضل الثلاثة-»(3).
كان على حزقيل أن يحافظ من جهة على نفسه من أن لا يكتشف أمره.
ومن جهة أخرى يحمي شخص النبي موسى، عليه السلام، ومن جهة ثالثة يدافع عن رسالته، وقد قام بكل تلك الأمور خير قيام، فهو حافظ على حياة النبي موسى، عليه السلام، حين نصحه بالخروج من مصر، لإتخاذ القوم قرار تصفيته الجسدية، قال الله سبحانه:
{وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحينَ}، (سورة القصص: 20).
وقد دافع عن رسالة النبي موسى عليه السلام، دون أن يشعر القوم بكونه من أصحابه.
فكان بمثابة الأداة الإعلامية للرسالة في معقل الكفر والشرك، ولم يكتفِ بالدفاع عن الرسالة الحقة فحسب.
بل وراح يناقش رمز الانحراف والضلال «فرعون» في سبيل كشف الضلالة عن قلوب الملأ من قومه، وتُحَدثنا الآيات الكريمة من سورة «غافر» عن موقف حزقيل المشرّف أمام فرعون وملئه.
لنقرأ ونتدبر في تلك الآيات الشريفة، التي تلت الحديث عن تهديد فرعون للنبي موسى، عليه السلام، بالقتل بصورة مباشرة، واستعاذة النبي، عليه السلام، بالله سبحانه:
{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُريكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْديكُمْ إِلاَّ سَبيلَ الرَّشادِ}، (سورة غافر: 28-29).
ولعدم أهمية الاسم تم التركيز في الآية على الصفة... بكونه من آل فرعون من حيث النسب والمنصب، ولكنه بعيدٌ عنهم في جانب الإيمان.
وهو في الوقت ذاته قام بكتمان إيمانه، وقام هذا الرجل المؤمن بالرد على تهديد أعتى طاغية في التاريخ بصورة مبطنة.
وفي الآية بصائر عديدة نذكر أهمها:
اولاً: استعمال اسلوب طرح الاحتمالات وعدم الجزم بالنتيجة من الأساليب الناجحة التي ينبغي للداعية الاستفادة منها في الحوار مع المخالف.
فالجزم بأحقيتك وباطلية المقابل يجعله يتعصب لباطله، وقد استعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب في بعض حواراته مع المشركين، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ في ضَلالٍ مُبين}، (سورة سبأ: 24).
ثانياً: دفاع حزقيل عن النبي موسى، عليه السلام، وعن رسالته كان بصورة غير مباشرة.
وذلك من خلال ايقاظ ضمير القوم واستثارة عقولهم ليعودوا الى رشدهم بعد غلبة العمى على بصائرهم، إضافة الى تحذيرهم من بأس الله سبحانه (وإن كانت مجرد نظرية إلا أنها تستحق الحذر والخوف).
ثالثاً: من الناس من لا تنفعهم دعوة الرسل مهما كانت بليغة ولا تؤثر في نفوسِهِم مَعَاجِزَهم وإن كانت مبصرة.
والسبب في ذلك أن المعاصي تقف سداً منيعاً دون الاهتداء بنور الرسالة الإلهية، فمن امتلأت حياته بالعصيان والآثام، لا يرجى له تأثر بالدعوات الحقة.
ومن هنا راح فرعون يعلن عن اسلوب القهر الفكري الموجود في نظامه، حيث منع قومه من مجرد التفكير في ما طرحه المؤمن -بعكس ما فعله المؤمن من إثارة عقولهم-، وأمرهم بإتباعه فيما يرى إتباعاً أعمى ودون تأمل.
لم يتوقف حزقيل عند تهديد فرعون أو إعلانه لنظام فكري محدّد يقوم هو برسم معالمه، بل راح يحذّر القوم من الوقوع في مصير مشابه لمصير الأقوام السابقة التي أنزل الله عليهم العذاب نتيجة إنحرافهم، فإن لم يكن ينفعهم الإنذار بالمستقبل لشكهم فيه، فلابد أن ينفعهم الإعتبار بالماضي لكونه حقيقة واقعة، تداولوا قصصها وأبناءها منذ صغرهم، بل كانت بعضها قريبة من عهدهم، وهكذا ينقل لنا الرب قول المؤمن في الرد على مقولة فرعون، حيث قال تعالى: {وَقالَ الَّذي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ * وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ * وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ في شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ}، (سورة غافر: 30-34).
راح حزقيل، يذكر لهم قوماً تلو قوم أهلكوا بسبب سوء فعالهم وقبيح خصالهم، محذّراً قومه أن يكون مصيرهم مصيراً مشابهاً لاولئك، خصوصاً وإن النبي يوسف، عليه السلام، كان في نفس البلد وكان قد جاء بالبينات لهم -كما فعل النبي موسى، عليه السلام-، ولكن هيهات أن يهدي الله سبحانه المسرف.
ولم يرد حزقيل من خطابه هذا مصلحةً لنفسه، بل انطلق في تحذيره بدافع حبه لهم وخوفه على هلاكهم، كما يفعل كل داعية ربّاني حيث يحاول جاهداً إنقاذ الناس من الهلاك بالتحذير والإنذار المستمر.
-------------