Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
ربما تثير كلمة «تكنوقراط» تساؤلاً في ذهن القارئ اللبيب، وهو يكحل النظر باسم أمير المؤمنين، عليه السلام، فما علاقة الإمام بهذا المصطلح السياسي الذي نسمعه كثيراً اليوم؟
قبل الوصول الى الإجابة عن هذا السؤال، يجدر بنا معرفة معنى هذا المصطلح، حتى نعرف فيما بعد، علاقته بالإمام علي، و بالغدير أيضاً.
«التكنوقراط»: النخب المثقفة الأكثر علماً وتخصصاً في مجال المهام المنوطة بهم، وغالباً غير منتمين للأحزاب، هذه الكلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين: «تكنو» وتعني؛ العلم والمعرفة، و»قراط»، هي كلمة أغريقية معناها الحكم، وبذلك يكون معنى تكنوقراط؛ حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة المثقفة.
عندما نعرّج على الغدير نجد أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، هو أول من وضع أسس «التكنوقراط» عندما نصّب لإمرة المسلمين من بعده، من هو الأكثر كفاءة وجدارة من جميع الجوانب، ونحنُ على يقينٍ، بأن لو وجدَ النبي الأكرم، من يكون أكثر كفاءة ً من الامام علي، عليه السلام، لقدمهُ عليه، لأنه، صلى الله عليه وإله، بعثه ُ الله رحمة للعالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، (سورة الأنبياء: 107).
يقول العلامة الطباطبائي - قدس سره - في تفسير هذه الآية: «أي إنك رحمة مرسلة إلى الجماعات البشرية كلهم - والدليل عليه الجمع المحلّى باللام - وذلك مقتضى عموم الرسالة، وهو، صلى الله عليه وآله، رحمة أهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ به سعادة أهل الدنيا في دنياهم وأخراهم. وهو، صلى الله عليه وآله، رحمة أهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهوراً بالغاً بقياس الحياة العامة البشرية اليوم، إلى ما قبل بعثته، صلى الله عليه وآله، وتطبيق أحدى الحياتين على الأخرى».
إذاً؛ تنصيب الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، كان على اساس الكفاءة وليس القرابة، لأن كل من يقوم بتوزيع المناصب على أساس المحسوبية والمنسوبية والحزبية يكون في فشلٍ مقيت.
عندما تولّى أمير المؤمنين، عليه السلام، الحكم، توقع البعض من المقربين منه، انه سيقربهم بالامتيازات والمناصب، فكان الرفض القاطع منه، عليه السلام، لأنه لا يريد أمراً ظاهرهُ حاكم وباطنه ُ محكوم عليه ببنود المستفيدين - وهم المُفسدون -.
وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على حرص الإمام، عليه السلام، أن يكون وفياً بوعده للرعية (المجتمع والامة)، بحيث يعمل كلٌ ضمن اختصاصه، ثم انطلق الامام علي، عليه السلام، في وضع قواعد «التكنوقراط» في رسالته المعروفة الى واليه على مصر؛ مالك الأشتر النخعي: «... واعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ»، أي كلٌ في مهنتهِ وتخصصه، بشرط التزام الصدق والأمانة في أداء وظيفته، وهذه القاعدة شاملة للجميع، سواء من يعمل في الحكومة، أو من افراد الامة، مثل التجار والفلاحين والبنائين والحدادين وغيرهم، ولعله من أولى الفوائد من هذا المنهج الراقي والحضاري، أن لا نجد عاطلين عن العمل قط في البلاد الاسلامية.
وقد جسّد الصدق والأمانة والعدل بخطابه الى أهل الكوفة: «إِذَا أَنَا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكُمْ بِغَيْرِ رَحْلِي وَرَاحِلَتِي وَ غُلَامِي فَأَنَا خَائِنٌ»، وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ، «دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عليه السلام، بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي: مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ: لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ عليه السلام: وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا».
واذا راجعنا خلفيات حرب الجمل، وجدناه في محاولة البعض القفز على مفهوم التخصص والحصول على الامتيازات دون وجه حق، بينما أراد الامام علي، عليه السلام، للطبقة المتعلمة والمتخصصة والمثقفة، أن تحكم وتأخذ بزمام أمور المسلمين، وليس غيرهم، وهذا ما أثار حفيظة كل من طلحة والزبير؛ أما معاوية فرفض أن يترك ولاية الشام ويذعن لأمر أمير المؤمنين بعزله، لذا أصرّ، عليه السلام، على أن لا يتساوم معهم لإرضائهم، بل توكل على الله - تعالى - وتحلّى بالشجاعة لمكافحتهما مستنداً الى الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}، (سورة محمد: 7)، ووجد رفضهما أقل شراً من تسلطهما، حيث قال، عليه السلام: «ولكن أسفا يعتريني وحزنا يخامرني أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعباده خولا والفاسقين حزبا».
المال: في كتاب «مظلومية الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام» للشيخ علاء المالكي، يقول: (... قامت المعارضة برفض زهد الإمام علي بالدنيا وعدم قبول المساواة في العطاء من بيت المال مراعاة منهم لمراكزهم وشخصياتهم التي تربت على أكتاف المسلمين، وجامل البعضُ في ذلك ليكسب مرضاة هؤلاء ومودتهم، لكن الإمام عليا لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو القائل: «أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ وَاللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِير»؛ أي لا يفارق الحق مدى الدهر حتى وإن صعّدت المعارضة لهجتها ووقفوا إلى جانب عدوه معاوية؛ لأن الحق مع علي والباطل مع معاوية وأشباه الرجال ...).
ولكن في العراق اليوم، نلاحظ حصول فائض في الميزانية، في الفترة الذهبية لأسعار النفط، فبدلاً من أن تذهب الى إزالة آثار الحرمان عن وجه الشعب، تذهب الى جيوب الساسة، وعند تراجع اسعار النفط وحصول العجز في الميزانية، نرى أنهم يسدون هذا العجز من قوت الفقراءِ !!
القضاء: كان الامام علي، عليه السلام، فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قُفْلٍ التَّيْمِيُّ وَمَعَهُ دِرْعُ طَلْحَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ، عليه السلام: «هَذِهِ دِرْعُ طَلْحَةَ أُخِذَتْ غُلُولًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ ابْنُ قُفْلٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اجْعَلْ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ قَاضِيَكَ الَّذِي ارْتَضَيْتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ بَيْنَهُما شُرَيْحاً...»، ولهذه القصة دلالاتٌ ثلاث: استقلال القضاء، وعدم وجود حصانة حتى للخليفة، وحقوق المُدعى عليه.
وجاء ايضاً؛ أنه، عليه السلام، «دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ وَهُوَ يَبْكِي وَحَوْلَهُ قَوْمٌ يُسْكِتُونَهُ فَقَالَ، عليه السلام: (مَا أَبْكَاكَ) فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّ شُرَيْحاً قَضَى عَلَيَّ بِقَضِيَّةٍ ...» إلخ. وهي دلالة ٌ أخرى على مراقبة القضاة حتى لا يضيع حق المظلوم.
وقد وجه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، عليه السلام، عدة نصائح لِـشُرَيْحٍ: «يَا شُرَيْحُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً مَا جَلَسَهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ وَصِيُّ نَبِيٍّ أَوْ شَقِيٌّ ... وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا مَنْ وَزَعَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ ثُمَّ وَاسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِوَجْهِكَ وَمَنْطِقِكَ وَمَجْلِسِكَ حَتَّى لَا يَطْمَعَ قَرِيبُكَ فِي حَيْفِكَ وَلَا يَيْأَسَ عَدُوُّكَ مِنْ عَدْلِكَ ... يَا شُرَيْحُ لَا تُسَارَّ أَحَداً فِي مَجْلِسِكَ وَإِذَا غَضِبْتَ فَقُمْ وَلَا تَقْضِيَنَّ وَأَنْتَ غَضْبَانُ». وقال، عليه السلام: «مَا اخْتَلَفَتْ دَعْوَتَانِ إِلَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا ضَلَالَة»؛ لأن الحق واحد.
العلم: مرّ الإمام علي، عليه السلام، على جماعة وسمع قراءتهم للقرآن بطريقة خاطئة فقام بوضع قواعد للقراءة، وأعطاها لأبي الأسود الدؤلي وقال له: أنحُ هذا النحو فسُمي بالنحو، وهذا يدل على الاهتمام بعلم النحو لما يفيد القراءة والكتابة، وهي رسالة لنا لأن نهتم بتدريس كل العلوم النافعة للمجتمع حتى لا يبقى الجهل معشعشاً بيننا.
وفي مجال الاستفادة من علوم الآخرين وتجاربهم قال، عليه السلام، في رسالته الى الأشتر: «... أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَسْرَةَ وَتُعْقِبُ النَّدَامَةَ وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي وَنَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ وَالْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ ...». وهذا دليل على احترام التصويت لأكثر عددٍ وأن لم يصب، يتحملون وزرها هم، خيرٌ من أن يفرض رأيه عليهم قهراً وأن أصاب.