بوادٍ غير ذي زرع، يتوافدون جماعات.. جماعات، ليلبوا نداء إبراهيم الخليل، حاملين في قلوبهم شوقاً متوقداً لرؤية محبوبهم، تركوا الأهل والديار، وسافروا في آفاق الروح، باحثين لهم عن موطئ قدم على أرض داعبتها نسائم الرسالات، علّهم يتعلقون بأستار البيت العتيق، فتطوف أرواحهم مع الملائكة المسبحين، و تهرول أجسادهم بين جبلين؛ علّها تجد صفاءاً لنفسٍ اتعبتها أدران الخطيئة.
تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتحلّق أرواحهم في عرفات، باحثة عن معرفة حقيقية لخالق الحقائق. يذرفون الدموع أنهاراً، ويفجّرون القلوب براكيناً، ويبيتون لربهم سجداً وقياماً، ومناجاتهم الصارخة تكاد تطير مع النسيم، فتنتشر في الأرجاء وكأنها عطرٌ يفوح من الورود.. فمناجاة العشاق في عرفات تُشعل القلوب وتزيد من الشوق. فنداء استكانة من هذا: "..إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري.." ، وهمسة تذلل من ذاك: "..أنا يا إلهي المعترف بذنوبي فاغفرها لي.. أنا الذي أسأت.. أنا الذي أخطأت.." .. وثالث يناجي جبار السماوات فيقول: "..إلهي أمرتني فعصيتك.. ونهيتني فارتكبت نهيك.. فأصبحت لا ذا براءة لي فأعتذر.. ولا ذا قوة فانتصر"، و عيونهم من الدمع قد فاضت، وقلوبهم من لوعة الفراق قد احترقت ، وكأن الحسين عليه السلام ، قد عاد معهم رافعاً يديه الكريمتين إلى السماء مخاطباً رب الأرباب: ".. إلهي.. متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك.. ومتى بعدت حتى تكون الأثار هي التي توصل إليك.. عميت عين لا تراك عليها رقيباً..".
و لكن العبادة تبقى جوفاء ما لم تلتحم مع العمل، و تنصهر في بوتقة القيم، و يبقى الدمع عديم الطعم إذا لم يُمزج بالمعرفة.. فيخطئ من يظن أن التقرب إلى الله عز وجل هو فقط بالبكاء أو بالصلاة دون تحمل المسؤولية .. تُرى ما قيمة ركعات يصليها عبد في ظلام الليل وحوله مئات من المظلومين يستصرخونه فلا يجيبهم؟ وما قيمة آيات تتلى آناء الليل وأطراف النهار، ولكنها لا تجد لنفسها مساحات في سوح العمل.
و الحسين عليه السلام، هذا الإمام العظيم الذي أظهر للعالم كله الجواهر المكنونة في العبادات.. وخاصة في عبادة الحج، من خلال تأصيله للمعارف الحقة في دعائه المعروف بدعاء يوم عرفة، والذي بيّن فيه معاني العبودية الصادقة، و أوضح فيه المعارف الإلهية العميقة.. ثم انطلق من العبادة إلى الجوهر العميق فهاجر إلى الله وحطّ برحاله على تراب كربلاء ليفجّر مكنونات العبادة، ويظهر للناس المعنى الحقيق للارتباط بالله عزّ وجلّ، فحفر في صفحات التاريخ كلمته : "..النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَ الدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون.."، ليكسر عليه السلام ، القيود التي بُنيت حول العبادة، وحررها لتكون قلباً ينبض بالحب لله ولأوليائه، و تكون شراراً يحرق وجوه الطغاة والظلمة. فلم تكن عنده العبادة مجرد طقوس يمارسها بل كانت منهاج حياة، ومنارة هدى، وأسلوب عمل.
وكثيراً ما ارتبط اسم الحج باسم هذا الإمام العظيم، لذلك يتذكر الحجاج في كل عام خروج الحسين عليه السلام من مكة والحجيج يأمون البيت العتيق، مغادراً إلى حيث أمره رب البيت، ليرسم لنا دروساً نحن في أمس الحاجة إليها اليوم ونحن نؤدي فريضة الحج كي نعود إلى أوطاننا حاملين معنا عبادة بروح نقية ومناسك ممزوجة بمعرفة عميقة، و حجّاً تتفجر فيه مكنونات العبادة من قلوب الحجاج العابدين.