Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
يرى بعض علماء الاجتماع عوامل مختلفة للتأثير الحتمي على فكر الإنسان ومن ثمّ على سلوكه، فالوراثة والتربية المعينة والمحيط الاجتماعي والنمط الاقتصادي للبيئة المعاشة والسياسة الحاكمة و.. كلها تؤثر على الفرد تأثيراً عظيماً يحمل المتأثر بها على تبني أفكار ذلك المحيط وعقائده، فمن يعيش في بيئة متدينة وملتزمة، لابد أن يكون كذلك، كما لو عاش ضمن أجواء متحللة فانه سيتأثر وتنعكس عليه أخلاقيات التحلل، وهذا ينسحب على سائر الأمور في حياة الانسان.
وبالرغم من أن لتلكم العوامل التأثير الكبير على الإنسان، إلا أنها تبقى تشكل ضغوطاً عليه دون أن تكون عوامل سالبة لإرادته، لأن الله سبحانه زوّد كل إنسانٍ، مضافاً إلى العقل، بالإرادة والاختيار الحر، ولا ينساق أمرؤ نحو شيءٍ ما، أو فكرةٍ ما إلا بمحض إرادته، حتى وإن كانت العوامل المادية تشكل أدوات ضغط عليه.
في المجتمع - أي مجتمع حلقات، الواحدة أضعف من الأخرى، سواءٌ على الصعيد الطبقي؛ كالفقراء والمعدمين الذين يشكلون الحلقة الأضعف فيه، أو على الصعيد الاجتماعي، حيث تشكّل المرأة الحلقة الأضعف في مقابل الرجل، لأنها تبقى - في الغالب - محكومةً له؛ سواء كانت بنتاً أو أختاً أو زوجةً، فالهيمنة تبقى للرجل والذي يفرض عليها إرادته، فتكون المرأة تابعة وخاضعة غالباً لأبيها أو زوجها.
ومن هنا فإن تأثر المرأة بالظروف المحيطة بها وبالعوامل المادية، أكثر من غيرها، لأن الضغط عليها أشد، واتخاذ العقيدة المخالفة للتيار الموجود يكون أصعب.
كانت امرأة، و زوجة لحاكم العصر، دون أن تكون من طبقته، فهو كان من طبقة الأشراف - كما يسمونها - أما هي؛ فكانت من الطبقة الفقيرة والمستضعفة في المجتمع، وهيمنة زوجها عليها من جهة الزوجية وأيضاً السياسية، تفرض عليها الخضوع له خضوعاً تاماً، إذ لم يذكر التاريخ حاكماً أعتى من زوجها، وسلطاناً أعظم سلطنةً منه، حتى وصل به الأمر أن يدّعي الألوهية حين خاطب الناس: ﴿فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾، (سورة النازعات: 11).
هذا من جانب؛ ومن جانب آخر، فان الكثير من النساء كنّ يتمنين أن يكنّ مكانها، فلم يكن مقامها هينّاً في المجتمع، فهي السيدة الأولى فيه، ولا تشتهي شيئاً إلا وتراه ماثلاً أمام ناظريها، ولكنها وبخلاف الكثير من زوجات الحكام والسلاطين لم تستغل مقامها ومنصبها في الشهوات والملذات، بل استفادت منه لتقوية جبهة الخير، وذلك حين استعملت نفوذها ومكانتها للحفاظ على حياة النبي موسى، عليه السلام، فكانت هي السبب الظاهر الذي جعله الله لبقاء موسى، عليه السلام، حيّاً وجعله يعيش في كنف أعتى الجبابرة، قال الله سبحانه عن موقفها المشرف هذا: {وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُون}، (سورة القصص: 9).
كان ذلك حين كانت الأمور مستتبة، ولكن هي بقيت الأمور كذلك؟
بالتأكيد لم تبق الأمور على ما كانت حين أعلن النبي موسى، عليه السلام، دعوته، وكانت تلك المرأة بين خيارين: اختيار موقف اللاأبالية والخضوع لسلطة الشهوة والطاغية، أو أن تسبح بخلاف التيار، ومخالفة أمر زوجها الحاكم وعدم الخضوع لفكره وعقيدته، يعني حرمانها مما تعيشه، كما يعني تعرضها لأشد العقوبات، لأن الطغاة لا يعرفون لغة التسامح مع من يخالفهم، وإن كان المخالف أعز الناس إليهم وأقربهم منهم.
في ظل ظروف وأجواء كهذه، هل كانت السيدة آسية بنت مزاحم، مندفعة للحفاظ على منزلتها وامتيازاتها وإن كان ذلك على حساب الآخرة؟
لم تكن الضغوط الإيجابية والسلبية لتؤثر على هذه المرأة العظيمة، ولم تكن لتبيع الآخرة بالدنيا - حتى وإن كانت دنيا فرعون - فلم تخضع له ولترهاته طرفة عين، بل كانت تعبد الله - سبحانه وتعالى- لأنها كانت من بني إسرائيل الذين توارثوا الإيمان بالله جيلاً بعد جيل.
آمنت بموسى، عليه السلام، بعد أن ظهرت معاجزه(1) ولكنها أبقت الأمر سرّاً حتى كان من أمر فرعون مع ماشطتها - خادمة كانت عندها - التي أعلنت تبرؤها من فرعون ونادت بكلمة التوحيد، فعذبها بإلقائها بعد أولادها جميعاً في قدرٍ نحاسي يغلي فيه الزيت، حينذاك أجهرت بمعارضتها لفرعون ومنهجه، دون أن تخشى فقدان ما لديها من النعيم، أو حتى تخشى العواقب الوخيمة، فقد روي: « كانت - آسية بنت مزاحم - تعبد الله سرا و كانت على ذلك أن قتل فرعون امرأة حزبيل فعاينت حينئذ الملائكة يعرجون بروحها لما أراد الله - تعالى - بها من الخير فزادت يقينا وإخلاصا وتصديقا فبينا هي كذلك إذ دخل عليها فرعون يخبرها بما صنع بتلك المرأة المؤمنة، فقالت: الويل لك يا فرعون...! ما أجرأك على الله - جل وعلا - فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك، فقالت: ما اعتراني جنون؛ لكن آمنت بالله - تعالى- ربي وربك ورب العالمين. فدعا فرعون أمها فقال لها إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت أو لتكفرن بإله موسى، فخلت بها أمها فسألتها موافقتها فيما أراد، فأبت وقالت: أما أن أكفر بالله، فلا، والله لا أفعل ذلك أبدا»(2).
لم يتمالك فرعون الطاغية هذا الرفض الصريح، فانتقم منها، لكن؛ كيف؟!
قال الشيخ الطبرسي - رضوان الله عليه - في بيان ذلك: «فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها فأبت فأوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس، ثم أمر أن يلقى عليها صخرة عظيمة فلما قرُب أجلها، قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فرفعها الله تعالى إلى الجنة»(3).
ترُى؛ أي إيمان حواه ذلك القلب! وأي عقيدة عقدت آسية قلبها عليه حتى تقاوم أشد العذاب دون أن يتزلزل إيمانها! فقد إختار لها الطاغية الموت البطيء ولكنها رفضت أن ينال من إيمانها شيئاً، بل جعلت ذلك العذاب مرقاةً لها إلى رب العالمين، فصارت مثلاً للإيمان يُضرب ورمزاً للصمود يُحتذى.
ضرب الله - سبحانه - بآسية بنت مزاحم، مثلاً بالمرأة المؤمنة التي يحيطها المجتمع الفاسد، ويضغط عليها من حولها لينال من إيمانها، فتقاوم كل الضغوط وتبقى شامخةً أبية.
ضرب الله سبحانه - بها مثلاً لتحتذي النسوة بها، فقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ}، (سورة التحريم: 11)، فلا يضرب الله بها مثلاً لنعرف اسمها وحسبها، بل لنعرف سيرتها وما قامت به، ولذلك تبين الآية وبصورة مباشرة موقفها الخالد: {إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّني مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّني مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمين}.
طلبت السيدة آسية بنت مزاحم أن يرزقها الله سبحانه بيتاً في الجنة، لأنها توكلت على الله وتركت خلفها كل النعيم الدنيوي، ولذلك كانت ترى - كما في بعض النصوص - قصورها في الجنة وهي في تلك الساعات الحرجة من حياتها قبل أن تخرج روحها الطاهرة، كما أنها طلبت أن ينجيها الرب - سبحانه - من زوجها الظالم وعمله، ومن كل الظالمين الذين كانت لهم بصورة أو بأخرى اليد في عذابها.
وقد لا يكون المراد من البيت هنا هو البيت الحجري، بل البيت الأسري، يقول سماحة السيد الوالد، المرجع المدرسي - دام ظله - «أن هذه المرأة الشريفة لم يحالفها الحظ في الزوج الذي ترغب فيه أمثالها من المؤمنات، فطلبت من الله أن تصير إلى نعم بيت الزوجية، وكان طلب البيت بمثابة طلب من فيه، وماذا يطيب من البيت للمرأة من دون زوج كريم؟ وإذا كان دعاؤها بهذا المعنى فلماذا لم يصرح به في القرآن؟ لعل ذلك لأن الآداب الاجتماعية عند العرب (وربما عند غيرهم أيضا) ما كانت تستسيغ للمرأة العفيفة أن تطلب زوجا.
ومما يؤكد هذه الفكرة الروايات التي بينت أنها تصبح زوجة لرسول الله، صلى الله عليه وآله، في الجنة، فقد أُثر عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، أنه دخل على خديجة، عليها السلام، وهي في مرض الموت فقال لها:
«بِالرَّغْمِ مِنَّا مَا نَرَى بِكِ يَا خَدِيجَةُ فَإِذَا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَائِرِكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ السَّلَامَ، فَقَالَتْ: مَنْ هُنَّ يَا رَسُولَ الله، قَالَ، صلى الله عليه وآله: مَرْيَمُ بْنَةُ عِمْرَانَ وكُلْثُمُ أُخْتُ مُوسَى وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ»(4).
ببطولتها في تحدي الضغوط، وبإستقامتها على إيمانها بالله سبحانه، كملت السيدة آسية من بين النساء، ففي الحديث الشريف المروي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا اربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وآله»(5)، وفي حديث آخر عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «اشتاقت الجنّة إلى أربع من النساء: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة»(6).
وليس هذا فحسب، بل نجد في بعض الأدعية مسألة الرب سبحانه بدعاء آسية، وفي بعض النصوص إشارة إلى حصول بعض النساء ثواباً كثواب آسية بنت مزاحم، كما في قوله، صلى الله عليه وآله: «مَنْ صَبَرَتْ عَلَى سُوءِ خُلُقِ زَوْجِهَا أَعْطَاهَا اللَّهُ مِثْلَ ثَوَابِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ»(7)، ونصوص أخرى كلها تدلل على عظيم منزلة هذه المراة العظيمة، فسلام الله عليها حين آمنت وحين قاومت وحين عذّبت وحين استشهدت.
--------------