"لا قضية اختلف حولها الانسان منذ القدم، مثل قضية القيادة..»، هكذا قال سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي – دام ظله – في احدى محاضراته بكربلاء المقدسة، لأن القيادة تعني الولاء والطاعة للأصلح والأكمل، ثم الالتزام بتوجيهاته، وهنا يتدخل العامل النفسي قبل غيره وبقوة، ليغلب احياناً كثيرة، العامل الديني والاخلاقي وحتى العقلي ، فيتخذ الانسان قراره المسبق بالرفض، وفق معايير خاصة تمليه عليه نفسه، وليس دينه وأخلاقه وعقله.. وهكذا كانت المسألة وراء أول جريمة في التاريخ البشري، عندما أقدم قابيل على قتل أخيه هابيل، عندما تقبّل الله تعالى قربان هابيل، وكان الأفضل والأحسن، لطاعته المحضة، وخلوص نيته وتقديم أعزّ ما لديه في سبيل الله تعالى، وهذا بمعنى أن هابيل سيكون الأجدر لخلافة أبيه النبي آدم عليه السلام. وهكذا أيضاً، كانت محنة الإمام علي بن أبي طالب.. هذا الامام المظلوم، الذي طاله الظلم، ليس لأنه عمل شيئاً وأثار به حفيظة ودفينة الآخرين، كما حصل لأخيه هابيل، إنما لأن الرسول الاكرم، وبحكم وقضاء مبرم من السماء، أظهر هويته الحقيقية أمام المسلمين، في منطقة «غدير خُم»، وإذن؛ فهو أفضل من الآخرين، وكان لابد من القول على مضض: «بخٍ بخٍ لك يا علي.. اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.."!
لكن ما السبيل الى قتل وإلغاء «الغدير»..؟! فالزمن تطور، والظروف تغيرت، وليس الامر بسهولة تصفية هابيل، لأن الهتاف جاء على مرأى ومسمع نحو مائة ألف مسلم، وقد أحصى العلامة الاميني في كتابه «الغدير» مائة وعشرة من اصحاب النبي، رووا هذه الحادثة والحقيقة التاريخية. إذن؛ لا مناصَ من الالتفاف على «الغدير»، ثم ضرب قلبها، وهي «المرجعية».. فما هو الدليل على أن النبي الاكرم أراد بـ «من كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه»، الحكم والخلافة من بعده..؟! إنما – وكما يقولون- هو تقريب وإظهار المحبّة والودّ، ويسوقون الى ذلك دعاوى القرابة والصهرية، وهي بعيدة عن قيم الرسالة، وهم منها أبعد.. لكن «هدير الغدير»، وقوته اللامتناهية، أحبطت تلك المحاولة، فكانت المحاولة التالية، زرع بدائل لمرجعية الغدير، من قبيل، مرجعية الحاكم، وإن كان فاسقاً، ومرجعية الدستور، أو الوطن، أو الديمقراطية، أو حتى الحزب والايديولوجية، وشهدنا طيلة العقود الماضية، حجم الجهود المضنية التي بذلها أصحاب تلكم المرجعيات لتسويقها الى الواقع لكن دون فائدة. والفشل والاحباط يثبته الزمن تارةً، والناس تارةً أخرى.. فأي مرجعية من تلكم المرجعيات أثبتت نجاحها للشعوب والأمم خلال العقود بل القرون الماضية؟ حتى بات الناس وما يزالون في حيرة من أمرهم امام الحكّام، فاحياناً يجدون العجز في مرجعية الدستور، واحياناً يجدون الفشل في مرجعية الحزب والايدلوجية، وحتى يصابوا في احيانٍ كثيرة بالاحباط في مرجعية الوطن بعد أن قبلوا أن يكونوا «وطنيين»، لكنهم وجدوا انفسهم على حين غفلة، في الفيافي والصحاري وبين الوديان، مشردين، لا يحملون من وطنهم سوى أرواحهم.
نحن بحاجة الى «مرجعية الغدير» حتى نعرف الحق فنعرف أهله، كما أوصانا إمامنا عليه السلام، قبل أن نعرف الأوامر الحكومية او العسكرية، وقبل أن نحفظ القوانين الوضعية، فإذا كان من شأنها تسيير شؤون الناس وتفادي الفوضى، فانها تبقى واقفة على قدم واحد، وإلا فان القانون جيد عندما يأمرك بالوقوف عند مفترق طرق، حتى تعبر السيارة الاخرى، او يعبر المشاة، لكنك تتفاجأ أن هذا القانون يتبخّر عندما تعدو سيارة أو موكب سيارات مظللة هذا المفترق، كما لو انه طريق مفتوح، لا أحد فيه. وقسْ عل ذلك..
نعم؛ القوانين والانظمة الحاكمة في العالم، فضلاً عن انظمة الحكم لدينا، تقرّ بفضل العدل والأمانة والصدق وغيرها من القيم السامية، كما تنبذ الظلم والخيانة والكذب، لكن من الذي يحدد أن هذا ظالم وذاك مظلوم..؟ أو هذا كاذب وذاك صادق..؟ انها مرجعية الغدير التي تصل بين الارض والسماء، وثبت بالدليل العقلي والنقلي، أنها الأجدر على قيادة الانسان والحياة، فهل ثبت أن نبي او وصي او رسول، أتى بما يلحق الناس الأذى والضيم والمعاناة، كما فعلها الطغاة والحاكمون الظلمة طيلة فترات التاريخ؟ واذا سألنا المشرعين والمقننين في برلمانات العالم؛ ما هو أساس وجذور القوانين التي تسنّوها للناس؟ سيأتي الجواب فضفاضاً، لا يصمد أمام الحاجات الاساسية والحقيقية للانسان، فالحرية والاستقلال الذي ينشده الانسان، تقومها الاخلاق والفضيلة، والتكفير والارهاب الذي ما يزال يهزّ جدار الامن في بلادنا، يعالجة «الغدير» بالمنطق والحجة البالغة، كما ان «الغدير» هو الذي يجعل أمير المؤمنين يستصلح الأراضي البور في المدينة، طيلة (25) عاماً، والقائمة طويلة..
مع كل هذا؛ هل نبقى نحن أبناء الاسلام والقرآن الكريم، نخوض البحث والدراسة والتحقيق في امكانية الوصول الى «الغدير»، من عدمه..؟ أم نشهد محاولات افراغها من محتواها، او حصرها في خانة التاريخ والتراث، وغير ذلك..؟
ان قراراً شجاعاً وخطوات ثابتة وقوية نحو «الغدير»، تنفض عنّا غبار اليأس والاحباط والهزيمة وغيرها من علائم التخلف، عندها يتحسس الناس في بلادنا، طعم الانسانية والحرية والعدالة والفضيلة والقيم النبيلة، وهم في ذلك على القاعدة القرآنية الحكيمة، «لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ»، وليكون جميع الحكام في بلادنا الاسلامية مطمئنين، أن «الغدير» فيه كل الخير والسلامة، ولن يلحق الضرر بأحد.