A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - نحو آداب في التعامل مع التراث الديني

نحو آداب في التعامل مع التراث الديني
كتبه: سماحة السيد محمود الموسوي
حرر في: 2017/01/03
القراءات: 2056

بين دعاوى حفظ التراث وإحيائه، ودعاوى تنقية التراث وتهذيبه، تبرز إشكالية في التعامل مع التراث الديني، وهي الحساسية المفرطة في مناقشة التراث أو الحساسية المفرطة حول قبول التراث وحفظه والإبقاء عليه، والكلام ليس في البعد المنهجي في التعامل مع التراث الديني، وإنما في السلوك الأخلاقي في التعامل معه، لأن الأبعاد المنهجية تناقش سبيل التعامل والتعاطي في داخل الموضوع، والبعد السلوكي هو سبيل وآداب التعامل حول الموضوع، وبعبارة أخرى، نحن بحاجة إلى البحث عن سلوك أدائي في التعامل مع مادة التراث الديني، وهو ما يمكن أن يؤسس إلى إيجاد منهج أخلاقي من شأنه أن ينفع البعد العلمي بشأن التراث وأمانة المحافظة عليه.

 

 التراث بين الحفظ والإتلاف

بالنظر إلى التراث الديني، فإننا نجد أن التعاليم الدينية دعت إلى كتابة العلم والمعرفة عبر الحفظ في الذاكرة أو الحفظ في الكتب، وقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «قيدوا العلم بالكتابة»، وعن الإمام الصادق، عليه السلام: «احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها» [1].

وتاريخياً فقد مرت عصور الإسلام الأولى، منذ عصر النبي، صلى الله عليه وآله، إلى عصر الإمامة بغيبة الإمام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه الشريف، باهتمام بالغ لتدوين المعرفة، لقد اهتم الأئمة، عليهم السلام، وأصحابهم بالتدوين، وقد أُلفت الكثير من الكتب لتكون وثائقَ يمكن الاستفادة منها عبر الأجيال، وقد عمد بعض المحققين بعد تتبع طويل في كتب الرجال إلى ضبط 1695 كتاباً صنّف، في عهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، هذا غير ما سقط عن الذاكرة المدوّنة، بسبب الإهمال أو حوادث التاريخ، التي نالت من الكتب والوثائق وقامت بإحراقها أو رميها في الأنهر للتخلص منها، فقد تلفت العديد من الكتب، التي وصلت لنا عناوينها دون متنها، والكثير منها اندثر عنواناً ومتناً.

وكان من أسباب تلف التراث الديني منع تدوين الحديث وحرقه في العهد الإسلامي الأول من قبل بعض الصحابة، ثم أصبح الاعتماد على الحافظة التي من شأنها أن تحدث تغيرات في النصوص عند نقلها من جيل إلى جيل، كما جاءت الإرادة السياسية للحكام في تحريف الوقائع التاريخية بمساندة المؤرخين المأجورين.

 

 التراث مادة للبحث والمعرفة

المادة الأساس بعد طول عهد بالعهد الأول من زمن النص وما تلاه، هي الوثيقة التاريخية التي تحمل بين طياتها روايات أو وقائع تاريخية، وعند الافتقار إليها تصبح عملية البحث أكثر صعوبة، ولذا فإننا نجد أن جهوداً قد بذلت من قبل علماء كبار في التدوين والجمع والتصنيف للمادة العلمية بغض النظر عن الإيمان بصحتها، ومدى وثوقها لدى المصنف، كي يتسنّى للباحثين التعامل مع المادة الوثائقية بحسب المنهجية التي يرونها، وكانت تلك الأعمال جهوداً علمية عظيمة صبّت في صالح المعرفة الدينية.

فمنها الكتب الأربعة: الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، والتهذيب، والاستبصار، معاً للشيخ الطوسي، وغيرها من كتب الحديث والتاريخ، ككتب الأدعية والزيارات والمقاتل والفضائل.

بعد هذه الجهود العظيمة، أصبح لدى الباحثين مادة زاخرة لإنضاج البحوث والإبداع في ميادين المعرفة، وسبر غور المتون لكشف المجاهيل.

 

 نظريات إتلاف التراث

بعد ما تعرّض له التراث الديني الزاخر من إتلاف متعمّد نتيجة عداء مستحكم من قبل الفاعلين، وما تسبب فيه ذلك من اندثار الكثير من الكتب العلمية، والتي منها على سبيل المثال كتاب (مدينة العلم) للشيخ الصدوق، والذي يعدّ من ناحية الحجم ضعف كتابه من لا يحضره الفقيه، إلا أنه لم ير له أثر، فبعد تلك الحقبة المأساوية، يمكننا أن نقول إن الدعاوى التي انطلقت من الداخل الشيعي تحت مسمّى تنقية التراث من الشوائب، وتهذيبه من الدخيل، وتصحيحه من الاعوجاج، هي عمليات مشابهة لفعل الإتلاف ولكن عبر تنظيرات ومبررات تحمل الشكل المعرفي، إلا أن مؤداها هو ذاته الذي انتهت إليه عمليات إتلاف التراث الديني.

هنالك اختلاف بين تبني رؤية أو منهج في التعامل مع التراث لقبول ورد مادة منه، لصياغة رأي أو رؤية ما، وبين المطالبة بحذف وإلغاء مادة تراثية أو روائية، والعبارات التي أطلقها البعض لم تكن لائقة بالمقام، وهي تؤدي مؤدى الإتلاف واقعاً، كعبارات «التطهير»، و»التنقية»، ثم إن الأسباب التي هي وراء تلك العمليات جاءت متنوعة، فمنها ما هو معرفي اجتهادي من خلال الإيمان بتكذيب المرويات، أو من خلال الاستحسان العقلي الذي لا يستوعب المادة ولا يقبلها وفقاً لمقاييس حسّية، وبعضها جاء الواقع مبرراً للحذف، كضرورة التعايش بين المسلمين، وتجاوز ما يثير المسلمين بحسب تعبيراتهم، وما إلى ذلك من أسباب واهية لا تعطي لأي أحد الحق في إتلاف وحذف التراث المعرفي.

هنالك حالة من الخلط بين الحديث عن منهج معرفة التراث وتصحيح ما يمكن أن يكون قابلاً للاستدلال عند الباحث، وبين الحديث عن السلوك والآداب في التعامل مع عموم ذلك التراث أو حتى مع التراث غير المقبول لدى الباحث، فالمنحى الأول يصب في اتجاه حجية الأخبار واعتماد المرويات في تشكيل وبلورة الحكم أو الرؤية، والثاني يصب في عموم المحافظة على المادة التراثية التي هي مادة البحث، سواء اعتقد بصحتها أو اعتقد باحتوائها على الغث والسمين، ومن ذلك الخلط فقد حمل البعض الكلام في المنهج على التعامل مع التراث، فظن أن رفضه لرواية يعني بالضرورة ضرورة حذفها وتغييبها.

 

 التراث كحق من حقوق الباحثين

يمكن للباحث أن يبدي وجهة نظره حيال مادة تراثية ما، وله كامل الحرية في البحث والتنقيب وإعلان الرأي، إلا أنه ليس من حقه المطالبة بإتلاف تراث ما، وهو المادة البحثية الخام، ولو كان ذلك تحت ذريعة الضعف الذي لا يعتمد عليه في بناء رأي، أو الأسطورة المشوّهة، وما إلى ذلك، لأن المادة التراثية هي حق عام للباحثين والعلماء، والعملية الاجتهادية في البحث في التراث مستمرة، ويمكنها أن تتطوّر، وهذا التطوّر قد يخلق مغايرة في النتائج، كما حصل تبدل الرؤية في المدرسة القمية ونظرتها لمفهوم الغلو.

 

 تراث البرقي المهدّد

لقد حدّثنا التاريخ عن إشكالية كانت سائدة في الأجواء العلمية في قم المقدّسة في القرن الثالث الهجري، فلقد كان القميون متشددين في شأن الرواية عن النبي، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، عليهم السلام، حتى أنهم اصطدموا بالراوي الكبير أحمد بن محمد بن خالد البرقي الذي كان حسب منهجيته ينقل مختلف الروايات، فلم يقتصر على الرواية عن الثقات بل تعداها وأكثر من الرواية عن الضعفاء أو المجهولين وكذا المراسيل، وقد قال عنه الشيخ الطوسي بأنه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، إلا أن كتب الرجال صرّحت بوثاقته في نفسه، فلم يكن الجو العلمي السائد في قم المقدّسة آنذاك يستوعب مشروع البرقي، ولهذا السبب اصطدم محدثو قم، وعلى رأسهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وكان بمثابة الشخصية الأولى في قم ورئيسها غير المنازع، حيث وجدوا أحمد بن محمد البرقي ينقل عن الضعفاء ويروي أحاديث بلا سند (مرسلة)، فلم يسمحوا له بالبقاء في قم، وقام أحمد بن محمد بن عيسى بإخراجه.

إلا أن أحمد بن محمد بن عيسى، والقميين ما لبثوا أن التفتوا إلى الخطأ الذي وقعوا فيه في حق أحمد البرقي ورأوا أنهم عثروا وزلّوا في قرارهم ذلك، إذ إن البرقي كان ثروة علمية لا تعوّض، فقد روى في فروع الحلال والحرام والأحكام الشرعية قرابة ثمانمائة وثلاثين رواية.

هذا إضافة إلى رواياته في أصول العقائد، وروى النص عن الأئمة الاثني عشر، عليهم السلام،.. بعدما انتبه القميون إلى ذلك، وعرفوا أي خسارة اكتسبوها[2]، قام رئيس قم وشخصيتها الأولى أحمد بن محمد بن عيسى، ومعه جماعة من أهلها بالاعتذار إلى أحمد البرقي، وطلبوا منه العودة إلى قم، وممارسة نشاطاته الفكرية والعلمية في أجوائها»[3] وبعد وفاة البرقي شاهد الناس أحمد بن محمد يخرج حاسر الرأس حافي القدمين يشيّع البرقي وهو يجهش بالبكاء.

حادثة البرقي هذه هي في صميم الإشكالية التي نحن بصددها، حيث أنه لم يجابه برأي مخالف وحسب، بل بقرار إداري يقصيه من ساحة الفكر ومنع مشروعه التراثي الذي يعمل على إنجازه.

 

 التراث الديني بين التواضع والغرور العلمي

يمكننا أن نضع بعض النقاط التي تنفع في سياق بلورة رؤية في آداب التعامل مع التراث الديني، ومنها الابتعاد عن الغرور العلمي، فإن الباحث لا يمكنه أن يدّعي الوصول إلى كمال المعرفة التي لا تقبل الخطأ، فيبقى أن لدى كل شخص ما عدا المعصوم مساحات من الجهل بحاجة إلى ملء، ومن ثَمَّ فيمكن من خلال عملية البحث أن تتغير أوجه النظر أو تتكامل الرؤى، ومن الغرور أن يعتقد الإنسان أن ما وصل إليه هو القمة الذي لا يقبل أن يأتي ما يعلو عليه.

إن غرور العلم‏ كان وراء الكثير من جهالات البشرية عبر التاريخ، وحسبما ذكره إمام الحكماء أمير المؤمنين، عليه السلام: «مَنْ ادَّعَى مِنْ الْعِلْمِ غَايَتَهُ، فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ جَهْلِهِ نِهَايتَهُ»[4].

ومن هنا ندعو إلى التنبّه على عدة حقائق في هذا المجال:

أ/ يحتاج الباحث إلى التواضع أمام التراث الديني، فينهل منه بحسب ما وصل إليه من معرفة، ويترك الباقي إلى ميادين البحث الأخرى لتنهل منه، فالحكم النهائي على تراث ما والسعي لحذفه يعد من الغرور العلمي بالنتائج التي وصل إليها، وهذا إنما هو دليل جهل كما أشار إلى ذلك أمير المؤمنين، عليه السلام.

ب/ مهما بلغ الباحث من معرفة، فإن ميدان العلم لا يزال مفتوحاً للاكتشاف والإبداع، وقد تتحول بسبب ذلك قناعات الإنسان من فترة إلى أخرى، فينبغي الاعتبار بتبدّل آراء العلماء وتحولاتها في مجالات الرواية وغيرها.

ج/ الدعوات التي أطلقها البعض في حق التراث الديني والتي وصلوا إلى نتائج بضرورة حذف بعض المرويات أو بعض ما ورد في التاريخ، هي حالة اجتهادية، ومن ثَمَّ فينبغي احترام الحالات الاجتهادية الأخرى، ومن الغرابة أن نجد من يبرّر حذف بعض التراث بأنه كان اجتهاداً من علماء ولم يكن رأي معصوم، ناسياً بأن نتيجته بحد ذاتها نتيجة اجتهادية وليست رأي معصوم!

د/ إن التراث الديني ليس بالضرورة ينفع في الحكم الشرعي الإلزامي، بل قد ينفع جزء منه في غير الإلزاميات، بل وقد لا تفيد بعضها في المنحى الفقهي، وإنما تنفع في المنحى الاجتماعي أو السياسي، من خلال قراءة جمعية لذلك التراث، بل وقد ذهب بعض العلماء إلى أن للروايات الضعيفة أو المرسلة فائدة من حيث تعاضد الأدلة واشتهارها، بما مجموعه يشكل قوة استدلالية غــير مباشـــرة عـــبر تضافر الأدلة.

هـ/ احتمالية الصدور عن أهل البيت، عليهم السلام، بخصوص الروايات أو الأفعال تترك بعداً آخر في التعامل، وهو الحذر من الرفض والتسرّع في عدم القبول، ولذلك حذرت الروايات من الاستهانة بالروايات المنسوبة إليهم.

 عالم دين من البحرين*   

------------

[1] الكافي/ج1/ص 4.

[2] والأصح: أي خسارة خسروها.

[3] رجال حول الرسول وأهل بيته/ ج2/ ص 168.

[4] بينات من فقه القرآن/ (سورة النور)/ ص: 87.


ارسل لصديق