Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
{وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ }، (سورة الرحمن: 24-27)
التقدم الذي حصل في العالم من الصناعات المختلفة التي وفرها الإنسان لخدمته، والذي كان منشأها الله تعالى عن طريق أنبيائه من المهن التي علمها لهم، كصنعة لبوس أو صناعة السفن أو تعلم الكتابة أو صهر الحديد أو ماشابه والتي سميت بعلوم الأنبياء، كما في السفينة التي يشير إليها القرآن الكريم ﴿الْجَوَارِي الْمُنشَآتُ﴾، أي: السفن العالية ذات الشراع التي تسير في البحر، ما هي إلا نتيجة لقدرة الله - تعالى - التي سخرها عن طريق تحريك قدرات البشر.
ولكن طغيان الإنسان على أحكام الله عز وجل، هو من أسباب هلاكه، إذ تصيبه الغرور بنعم الله عز وجل، يخوض بها وكأنما باقية له لا تزول، بل ولا يستطيع أن يؤخر عن نفسه الموت ولو للحظات، لذا وما كفر من كفر ولا عصى من عصى إلا لتجاوز حدوده، وحده إنما هو الوقوف عند عتبة العبودية لله - عز وجل - وتوجهه للذي خلق السماوات والأرض، وفعله المأمور به وتركه المحظور، فإن رب الغزة لم يقل (كل من عليها ميت)؛ بل قال: { فَانٍ}، لأن الموت يعبر عن حياة أخرى، وإنما الفناء هو العدم.
لذا من الأسباب لهذا الطغيان والغرور؛ التكالب على الحياة الدنيا فتأخذهم الغرور فيها، كما في فرعون الذي ظن بنفسه فضلاً على كليم الله موسى، عليه السلام، بحجة أن قوله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾، (سورة الزخرف: 51)، فتجاوز حده في الطغيان وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، (سورة النازعات: 24)، وفي من يغتر بقوته كقوم عاد وقوم هود حينما قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾، (سورة فصلت: 15)، ومن الناس من تطغيهم أموالهم كقارون الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}، (سورة القصص: 78)، إذ إن حكمة الله تعالى تقتضي أن يكون جزاء طغيان الإنسان من جنس عمله؛ فلما كان الطغيان علواً في الأرض بغير الحق كانت عاقبته الذلة والهوان، ولما كان غرور فرعون الملك وادعاء الربوبية والاستعلاء في الأرض، فكانت عاقبته؛ أن سلبه الله ملكه وغيبه أسفل اليم وملأ فمه طيناً ثم جعله عبرة لمن اعتبر، وقوم عاد الذين غرتهم قوتهم، فقد أخزاهم الله وأرسل عليهم جنداً من جنوده {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}، (سورة فصلت: 16)، وأما عاقبة قارون الذي اختال على الناس بكنوزه وأمواله وعلا بها عليهم فقد صيره الله - عز وجل - أسفل سافلين، قال الله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾، (سورة القصص:81)، هذا في الحياة الدنيا ﴿ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا﴾، (سورة المائدة: 33)، وأما في الآخرة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (سورة النازعات: 37-39).
يعود ذلك إلى ابتعاد الناس عن الحقيقة الكبرى التي دائما تغيب عن أذهانهم، من أنهم في يوم من الأيام يكون مصيرهم إلى الهلاك (الفناء)، كما تعبر الآية المباركة: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، بل وينشغلون بتوافه الأمور التي لا قيمة لها، وإنما فهم هذه الحقيقة بمعارفها الإلهية تحتاج إلى عمل دؤوب من الإنسان لكي يكون على طريق الهدى، عند ذلك تحول حياته إلى شكلٍ أفضل مما كانت عليه سابقاً قبل التوجه إلى الله تعالى، بالتوجه إليه تعالى، كما تشير الآية المباركة: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾، (سورة البقرة: 115).
لأجل ذلك نلاحظ الكثير من الناس يرغب بأن يكون مع الله! ولكن لا يجد علامة يستدل بها نحو الملكوت الأعلى، لذا رسم القرآن الكريم منهاجاً لمن يريد أن يكون مع الله سبحانه؛ فوضع ربنا في الآية المباركة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، (سورة النحل: 128)، علامتين للراغبين أن يكونوا معه تعالى:
العلامة الأولى: ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾، أي: التقوى، وأما العلامة الثانية: {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}، أي: الإحسان، فعندما تتلازم التقوى مع العمل الصالح؛ فإن في مابينهما تصبح علاقة جاذبية نحو القدرة الإلهية التي تقول للشيء كن فيكون..! جرب مرة بأن تتقي الله بكل ما يؤتى من مقدماته، سترى التجليات عليك من رب السماء والأرض كأنما لديك العصمة الإكتسابية، لأجل ذلك قال الإمام الحسين، عليه السلام، في دعاء عرفة: «...ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك...».
مع ذلك ليس الطغيان قاصراً على أهل الكفر والعصيان، بل قد يطغى المرء وهو من أهل الطاعة أن رأى نفسه استغنت بشيء من النعم؛ من (علم أو عبادة أو نسب، أو غير ذلك).
1- أما العلم؛ كما ذكر عن أحد العلماء الأعلام: «فأما العلم فله طغيان كطغيان المال، وهذا إن ترفع به صاحبه على من دونه ولم يزكه بالعمل به، أو إن دفعه علمه للتحايل على شرع الله وتتبع الرخص».
2- وأما العبادة، فمن العُبَّاد من يرى لنفسه فضلاً على من هم دونه فيها ولا يراهم إلا مقصرين وكسالى، مع أن منهم من في قلبه من الإيمان أضعاف ما في قلبه هو، ومن العُبَّاد من يحسب أنه هو الناجي وحده وكل الناس هلكى.
3- وأما النسب فالتطاول به على الناس من أمور الجاهلية التي وضعها النبي، صلى الله عليه وآله، تحت قدميه الشريفتين، وفي الحديث أنه، صلى الله عليه وآله، خطب الناس يوم فتح مكة فقال: «...فالناس رجلان؛ بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب، وتلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، (سورة الحجرات: 13)».
فما هي الوسيلة التي تقرب العبد إلى ربه أكثر فأكثر، والتمكن من نيل مرضاته تعالى؟
إن المسافة بين الإنسان وبين الاستجابة للوحي واتباع القيادة الرسالية مليئة بالتحديات والضغوط، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها الا بزاد التقوى والإيمان التي يواجه بها أشواك الطريق.
فالمحك في ذلك هو الإيمان والتقوى؛ فالإيمان مع ولاء ديني شامل وعملي، للرسالة الإسلامية، يصوغ شخصية ربانية بعيدة عن قوالب التحزب الأعمى، والعصبية الضيقة، والقومية المحدودة، والوطنية الزائفة؛ وإيمانٍ كهذا يصنع مجتمعا صالحا، يعمر الأرض، وينصر الضعفاء، ويقاوم الطغاة والمجرمين.
نعم؛ انه سوف يواجه ضغوط القيادات المنحرفة، والمجتمع من حوله، ولكن ليعلم ان ما يجده مع التقوى واتباع طريق الهدى خير مما يفوته من حطام الدنيا.
الذي يتقي الله ويؤمن بالرسول ينال نصيبين وحظين؛ فلا يخسر الدنيا بسبب اعتزاله المفرط عنها، ولا يخسر الآخرة بسبب الالتصاق المفرط بالدنيا.
فالإسلام منهاج متوازن يريد لاتباعه الدنيا والآخرة {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ}، (سورة الحديد: 28).
فيجب على كل إنسان أن يستحضر في ذهنه، لماذا جيء به إلى الحياة الدنيا؟ وما هي أهدافه الكبرى فيها؟ وما هي سنن الله الحاكمة عليه؟ فهذه التساؤلات تهدي من يريد أن يعرف إجابتها؟ وعشرات التساؤلات التي تهيّئ للإنسان طريق الهداية، ليتسنى له الوصول إلى مصدر النور وهو الوحي الإلهي، الا أننا بحاجة إلى القيادة الربانية، لأنها الأقرب إلى حقائق الوحي؛ فهي المرآة الصافية التي تعكس الحقائق بصدق وأمانة ووعي، فما أحوجنا إلى هذا النور ونحن نعيش في عالم كثرت فيه البدع، والمذاهب الضالة، ووسائل الإعلام الفاسدة والثقافة المضللة.
فالمهم ليس في ان يتحرك الإنسان أو يمشي، بل المهم ان تكون حركته في الطريق المستقيم نحو الأهداف التي خلق من أجلها؛ وذلك حينما يضيف الإنسان إلى إيمانه التقوى واتباع سبيل الحق، فإن ذلك سيطهر قلبه وسلوكه من الانحرافات والذنوب. فالتقوى تخلص نيته وتدفعه للطاعة كما تجنبه المعصية، والقيادة المتمثلة بالمعصومين، عليهم السلام، تنير له الدرب ليشق طريقه على بصيرة وهدى.