A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - فلسفة العبادة ودورها في مسيرة تكامل الإنسان

فلسفة العبادة ودورها في مسيرة تكامل الإنسان
كتبه: حسين محمد علي
حرر في: 2017/02/13
القراءات: 3938

لا يمكن أن نتصور الحِكمة من الخلق، بدون وجود الإنسان، وكذلك لا يمكن أن نتصور أن هناك رسالة ولا إنساناً.

فبما أن الإنسان هو محور الخلق، كذلك هو ذاته محور الرسالات الإلهية، والمحورية هنا ليست فقط كون الإنسان هو المقصود من الخطاب، وإنما هي المحورية الكاشفة عن قيمة يحققها الإنسان بذلك الخطاب.

هذا الوصف، هو الذي تنفتح به دلالات الخطاب أمام طموح الإنسان المتطلع للكمال، وعند ذلك تتحول كل التشريعات، وكل الأحكام والتوصيات، إلى محفزات تؤكد قيمة الإنسان، لا قيمة التشريعات بعيداً عن قيمة الإنسان، فالخطاب الذي يضخم قيمة التشريع، ويتجاهل تماماً قيمة الإنسان، هو الذي يقلب الحقائق ويغير المسار، وتصبح الرسالة - حينئذ - عبئاً يثقل كاهل الإنسان، والحال أن الرسالة لم تأتِ إلا لكسر القيود والأغلال التي تقف حاجزاً أمام الإنسان، قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ}، (سورة الأعراف: 157).

 

 الانسان، قيمة محورية في التشريع

وهنا يمكننا تسجيل ملاحظات على مجمل الخطاب الإسلامي، أو على مستوى الوعي الديني المتاح عند الإنسان المسلم، فقد عمل هذا الخطاب - أحياناً - على استبعاد الإنسان كقيمة محورية جاءت من أجلها التشريعات، في حين أنها لا تكتسب أي قيمة بعيداً عن الإنسان، كما أن قيمة الإنسان تتحقق عبر القيم التي تؤكد عليها التشريعات، ومن هنا تنبع خطورة تهميش الخطاب الديني للإنسان كقيمة محورية، وتركيزه على التشريع بوصفه طقوساً مطلوبة لذاتها.

ولذا نجد أن الانتماء للإسلام ضمن الثقافة السائدة، لا تتجاوز تأدية الفرائض العبادية وتنفيذ هذه التشريعات، ومن ثم تتحول هذه الطقوس إلى قيمة يدور حولها الإنسان، فالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من العبادات، لا تعدو كونها - ضمن هذه الثقافة المتاحة - واجبات يثاب عليها الإنسان يوم القيامة، أما على مستوى الحياة الدنيا، فلا تشكل قيمة ملموسة على مستوى السلوك الحضاري للإنسان؛ الفرد او المجتمع.

والإسلام هو الرسالة الخالدة التي جاءت تتويجاً لجهود الأنبياء السابقين، وكون الإسلام خالداً، يدل على شمولية الخطاب وتمامية التشريع، كما أن الخاتمية تعني خلاصة ما يريده الخالق للمخلوق، وهذا النوع من التفكير هو الذي يخلق مساحة للتفاعل بين الإنسان ومضامين الدين وحِكم التشريع؛ لأنه نوع من الوعي الباحث عن مراد الله وحِكمته من خلق الإنسان ووجوده، فقيمة الإنسان في ما أراده الشارع للإنسان، وليس في ما أراده هو، فالعبادة لا تكون عطاءً من الإنسان بقدر ما هي عطاءٌ للإنسان؛ لأن معناها الحقيقي ليس سلب شيء من الإنسان، وإنما تحقيق قيمة له.

 

 الحرية وحقيقة العبودية لله - تعالى-

وعند هذه النقطة تتشكل مفارقة جوهرية بين قيمة الإنسان في الإسلام، وبين قيمة الإنسان في الفلسفات المادية، التي تتضخم فيها الأنا بشكل يخال الإنسان فيها أنه ربٌ للوجود! او ربما يجترّ ما قاله فرعون من قبل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، (سورة النازعات: 24)، هذه النظرة الغافلة عن حقيقة الإنسان العاجز والفقير إلى الله، لا تُكسب الإنسان إلا مزيداً من الغرور وعبادة الذات، وهي النقطة التي أوقفت حركة الانسان عندما ينظر الى نفسه بعين الرضى والكمال، بعكس عبادة الله، التي لا تجعل لعروج الإنسان حدوداً - كما سيأتي توضيحه -.

فإذا كان الكون مسخَّراً للإنسان، وخطاب الإسلام يدور حول الإنسان، فأي محور يجب أن يدور حوله الإنسان؟

هذا السؤال، يقودنا - وبشكل مباشر- إلى فلسفة خلق الإنسان، وهي العبودية الكاشفة عن محورية الله لدى الإنسان، ونستشف هذا الأمر من قوله تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}،(سورة الذاريات: 56)، فهذه الآية إجابة صريحة عن السؤال حول علّة خلق الله الإنسان، فالعبودية تمثل هدفاً سامياً وقيمة عليا للإنسان، فما هي العبودية؟

نحن هنا لا نحاول أن نثير البحث بشكله التقليدي، الذي يتناول تعريف العبادة في اللغة والاصطلاح، ومن ثم مناقشة الآراء وترجيح الأقوال، وإنما نحاول التعرف - وبشكل مباشر- على حِكمة العبادة وحقيقتها، والفلسفة الكامنة فيها.

في البدء؛ لا يمكن أن تتضمن العبادة مفهوماً سلبياً، لا من جهة العبد ولا المعبود، لأن الله غنيٌّ بذاته لذاته، غير محتاج لخلقه: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ}، (سورة محمد: 28)، ثم إن الله لا ينتفع بعبادة العبد، بل العباد هم الذين ينتفعون.

ولذا يجب علينا البحث عن معنىً للعبادة يستقيم معه التوحيد، وتنسجم به فطرة الإنسان، فالعبودية في الدلالة العرفية تتناقض مع الحرية، فكيف يكون الإنسان عبداً وفي والوقت نفسه حراً؟، وهل قيمة الإنسان في عبوديته أم في حريته؟ هذه الأسئلة يمكن أن تقودنا إلى إيجاد فلسفة للعبادة يرتفع بها التناقض وتتحقق بها قيمة للإنسان.

ولكي نقترب من العبادة بالمعنى التشريعي، لابد أن نقترب أولاً من العبادة بالمعنى التكويني، بوصفها الأساس الذي تبتنى عليه العبادة في التكليف؛ فكون الإنسان عبداً باختياره، يعني بالضرورة كونه عبداً في كيانه، فلا يكون هذا التكليف حالة عرضية لم ترتكز على الطبيعة الإنسانية، وإنما القول بأن الإنسان بذاته عبد، هو تعبير آخر عن القول إن الإنسان كائن مخلوق.

وبعبارة أخرى، هل الإنسان بذاته عبد؟ أم حرّ؟

فإن كان الإنسان بذاته حراً، فتكون العبادة بالمعنى التشريعي نوعاً من أنواع مصادرة الحرية أو تحديدها وتحجيمها، لعدم وجود مبرر ذاتي يدعو الإنسان للخروج من الحرية للعبودية، إلا أن تكون هناك سلطة فوقية، فرضت الهيمنة والقهر على الإنسان، إظهاراً للسلطنة والقدرة، فتكون العبادة حينئذ حالة سلبية بامتياز، على مستوى العبد والمعبود.

فعلى مستوى العبد لا تعدو كونها تحجيماً لمقدراته وتحديداً لإمكاناته، والأمر واضح على مستوى المفارقة العرفية، التي تميز بين العبد المملوك لسيده وبين السيد الحر، أما على مستوى المعبود، فإنها تكشف وبشكل ما، عن حاجته ونقصه - وحاشا لله من ذلك - التي دعته إلى فرض الهيمنة والسلطنة، ومصادرة حرية الإنسان.

 أما القول الآخر بأن الإنسان بذاته عبد لله تعالى، فإنه يرتكز على حقيقة الإنسان المخلوق، وهذا الوصف هو ذاته الذي يحقق معنى العبودية؛ فإذا تحقق الخلق، فلا يحتاج الأمر إلى مرحلة ثانية تتحقق فيها العبودية التكوينية، فالمخلوق معلق دوماً بخالقه، والموجود محتاج إلى موجده، بحيث يكون مُضطراً في بقائه إليه، وتلك العلقة الاضطرارية هي نفسها العبودية.

وتأتي من طبيعة هذه المقابلة العميقة؛ حقيقة (الحاكمية) المطلقة لله سبحانه على البشر جميعاً، كما تتحقق طبيعة (المحكومية) الشاملة للإنسان، بحيث يفرض عليه العقل والضمير أن يخضع لله في كل شؤونه، وألا يعمل إلا بما يوحيه إليه سبحانه، ويلزمه في حقلي الدنيا والآخرة سواء بسواء، ذلك لأن مجرد تصور (المالكية الإلهية)، و(العبودية البشرية)، كاف لإيحاء فكرة العبادة والخضوع أمام الله تعالى، إذ الفكرة هذه ليست إلاّ تعبيراً عن تلك الحقيقة.

والحرية بهذا الفهم لا يمكن أن تكون تأسيساً لخيارات تبتعد عن حقيقة العبودية؛ فالحد المشترك الذي يجمع بين كيان الإنسان المضطر في عبادته لله وبين الحرية هي؛ المسؤولية، والمسؤولية تعني أن تتحرك الحرية فيما ينسجم مع الطبيعة التكوينية للإنسان؛ لأن الحرية ليست مطلق الترجيح بين الخيارات، وإنما الحرية هي ترجيح الأصلح الذي ينسجم مع طبيعة الإنسان العابد بكيانه لله، وإلا تكون الحرية عقبة حقيقية في مسيرة الإنسان التكاملية؛ لأن بإمكان الإنسان أن يختار بحريته السير عكس اتجاه السنن الكونية.

 

 غاية العبادة التكامل

وبهذا بدأنا نقترب من معرفة حكمة العبادة، فإذا بدأنا بالآية القرآنية: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، وجدنا أنها تشير للعبادة على مستوى التشريع وليس التكوين، وهي ترسم بذلك فلسفة خلق الإنسان وحِكمة وجوده.

وإذا تمعنا فيها، نجد أن هناك مقابلة بين كلمة الخلق وكلمة العبادة، فإذا عرفنا عمق معنى كلمة الخلق، نعرف عمق معنى كلمة العبادة، وذلك لأن العبادة جاءت كنتيجة طبيعية لخلق الإنسان، فمتى ما كان هناك خلق، كانت هناك عبادة، فكأنها لازم ذاتي لا تنفك عن الخلق، ومن المعلوم أن كلمة الخلق لها معانٍ، فأي معنى من معاني الخلق يمكن أن يقابل مفهوم العبادة، أو يحقق مفهوم العبادة؟

هنالك ثلاثة معانٍ للخلق:

المعنى الأول: أن الخلق أمر واقعي وليس وهماً وخيالاً، بخلاف المدارس السفسطائية والمثالية التي شككت في حقيقته، فالموجود حقيقة متمثلة في الخارج، وأقرب طريق إلى معرفته هو التنبه إلى واقع وجوده، والاعتراف بأن للإنسان كياناً وحقيقة، وهو بداية تأسيس قيم حياتية تؤكد حق الإنسان في الوجود.

المعنى الثاني: أن كيان الإنسان ووجوده قائم بالله، مما يعنى أن وجوده حقيقة طارئة، تحتاج دوماً في وجودها إلى الموجد، ونستفيد من هذا المعنى، العبودية بالمعني التكويني، بشكل أوضح من المعنى التشريعي.

المعنى الثالث: أن الإنسان ما دام مخلوقاً، فهو لا يزال ناقصاً، يعيش حالة من الضعف: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، (سورة الروم: 54)، والشعور بالضعف والفقر والحاجة، هو بداية السعي لإكمال النقص، لأن الذي خلقه من لا شيء، قادر على أن يزيده كمالاً، ويبارك له في قدراته: {وَاسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً}، (سورة النساء: 32)، والطريق إلى إكمال النقص هو الرجوع إلى الله تعالى، والطلب منه والتقرب إليه سبحانه ﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، (سورة غافر: 60)، وهنا ربط واضح بين الدعاء والعبادة، وبين طلب الحاجة والاستجابة، والحاجة دليل النقص، والاستجابة إكمال للنقص.

وكل هذه المعاني تحقق مفهوم الخلق (وما خلقت)، فيمكن أن يقال: الخلق هو هذا الذي تراه ماثلاً أمامك، أو؛ الخلق هو الحقيقة التي تحتاج إلى خالق، أو؛ الخلق هو الناقص الذي بإمكانه أن يتكامل.

بعد أن نحقق هذه المعاني، نجد أن المعنى المقابل للعبادة هو المعنى الثالث، وهو أن الموجود قابل للنمو والتكامل، فتصبح حقيقة العبادة: تكامل الإنسان والعروج به في مدارج الكمال، فإذا كان الإنسان يمثل محور الخلق، وكان تكامل الخلق من أجل الإنسان، فلا بد أن يكون للإنسان تكامل خاص، وهذا سر دعاء الأنبياء والرسل للعبادة، لأنها الطريق الذي يحقق للإنسان تكامله، بعد ربطه بالله مصدر كل كمال، فمعرفة الله سبحانه تعني معرفة الأسماء التي هي عناوين الكمال، فمن اسم العليم تتحقق قيمة العلم، ومن اسم القدير تتحقق قيمة القدرة، ومن اسم الرحيم تتحقق قيمة الرحمة، ومن اسم الكريم تتحقق قيمة الكرم ... وهكذا؛ كما أن هذه الأسماء هي ذاتها الطريق الذي يحقق العبادة: ﴿وَللهِ الأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها، (سورة الأعراف: 180).

وبذلك، تصبح غاية العبادة هي التكامل، الذي يسعى إليه الإنسان، فإذا كانت فلسفة الإسلام هي العبادة، وفلسفة العبادة هي التكامل، فتكون فلسفة الإسلام هي التكامل، وهنا تنسجم فلسفة الرسالة الداعية للعبادة مع فلسفة الخلق الداعية للتكامل؛ لأن العبادة هي التعبير الآخر عن التكامل.

وبهذا نكون قد رسمنا الخريطة العامة لفلسفة الدين والرسالة، فكل عقيدة يعتقد بها المسلم، أو كل حكم يتعبد به، أو كل شعيرة يتقرب بها، لا بد أن تكون موصلة لهذا التكامل، ودافعة لكل معوق للمسيرة، فكل مذهب يعتقد بما هو ليس بمحقق للكمال، لا يعدّ تمثيلا صادقاً للإسلام.


ارسل لصديق