Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11).
- الدنيا والآخرة مثل كفتي ميزان، ما رجحت إحداهما إلا على حساب الثانية؛ خصوصا إذا فسرنا الدنيا بأنها الحياة الفارغة عن القيم الإلهية؛ فمن اختارها، وترك الفرائض، وتهرب من المسؤوليات، وكفر بالرسالة؛ فإن له وجها خاشعا في الآخرة، وعملا ناصبا، وكدحا متواصلا، وهؤلاء شرابهم في النار من عين آنية، وطعامهم فيها من ضريع.
ومن اختار الآخرة؛ فإن وجهه هناك ناعم، وقلبه راض، وعيشته في الجنة ذات سلام وأمن، وعين جارية، وسرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة.
ويبدو أن هذا هو محور سورة الغاشية التي تختم بذكر الحساب الإلهي الذي ينتظر الناس بعد إيابهم.
- لولا الوحي، ولولا آياته التي تطرق أبواب القلب طرقا عنيفا، أنى كان لقلب الانسان - الذي أشغلته هموم حياته وأحلامها - أن يعي القيامة وأهوالها؟
إن صفات ذلك اليوم تملأ القلب كله وتزيد؛ ولكننا مشغولون عنها بالحاضر الذي تتراءى قضاياه كبيرة، وهي - بالقياس الى ذلك اليوم - تافهة جدا.
يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}؟ بصيغة الاستفهام؛ لأن للاستفهام وقعا كبيرا في النفس.
والسؤال - هنا - عن حديث هام يفرض نفسه ويأتيك سعيا لضخامته؛ بينما الأحاديث التافهة تبحث عنها وقد لا تجد لها أثرا.
بلى؛ إنه الحديث عن الغاشية؛ حقيقة تغشى كل شيء: البر، والبحر، والجبال، والأحياء؛ تحيط بهــا القيامة، والسماوات وما فيها تنوء بها، فأنى لهذا الانسان، ... ماذا يغشانا من القيامة؟
أَدُخانُهـا كما قال ربنا: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ﴾، (سورة الدخان: 10-11)؟ أم نارها: ﴿وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ﴾، (سورة ابراهيم: 50)؟ أم زلزالها: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}، (سورة الزلزلة: 1-2)؟ أم صيحتها؟ أم قارعتها ؟أم صاختها؟ أم كل أهوالها؟
بلى؛ إنها الغاشية التي لا تدع أحدا يهرب منها، وإنها الغاشية التي لا تترك جزءا من الانسان فارغا.
- إن أبرز ما يغشاه ذلك اليوم الوجه الذي هو مظهر الانسان؛ فيعلو وجوه أهل النار قتر وهوان، وخشوع الخيبة والذل؛ لأنهم لم يخشعوا في الدنيا خشوع الكرامة والعزة؛ ولذلك نقرأ في الدعاء: «اللهم إني أسألك خشوع الايمان قبل خشوع الذل في النار»(2).
- لأن هؤلاء تكاسلوا في الدنيا، وأهملوا واجباتهم، وتهربوا من المسؤوليات، فإنك تراهم في ذلك اليوم في كدح وتعب؛ وذلك قوله تعالى: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾.
قال البعض: هذا في الدنيا؛ إذ لا عمل في الآخرة، وفسروا العمل بالدأب في السير، والنصب بالتعب؛ ولكن من قال لا عمل في الآخرة ولا نصب؟
بلى؛ وتحركهم في صحراء المحشــر وسـط ظلام دامس تسوقهم ملائكة العذاب، وتشهد عليهم ملائكة الحساب إنه عمل ناصب.
إنما عملهم ثمة بلا فائدة ترجى لهم، ونَصَبُهم بلا ربح ومكسب. ولو أنهم أجهدوا أنفسهم في الدنيا قليلا؛ لأعقبتهم راحة طويلة في العقبى؛ كما قال الامـام أمير المؤمنين، عليه السلام، في صفات المتقين: «صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة»(3).
وفي طائفة من النصوص المأثورة تفسير هذه الآية بأولئك الذين يعملون في الدنيا وينصبون ولكن فـي طريق خاطئ؛ فلا يكسبون من عملهم نقيرا؛ لأنهم يوالون الطواغيت، وينصبون العداء لأئمة الهدى، عليهم السلام، وتابعيهــم.
وروي عن الامام أمير المؤمنين، عليه السلام، أن هؤلاء هــم أهـل «حــروراء»، يعنـي الخوارج الذين ذكرهم رسول الله، صلى الله عليه وآله؛ فقـــال: «تحقـرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(4).
وهذا تــأويل حسن للآية؛ بيد أن تفسيرها - في ما يبدو من السياق - أعم وأشمل. روي عن ابن عباس أنهم يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم؛ فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب، بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار، كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقائهم في صعود من نار، وهبوطهم في حدور منها(5).
وأنى كان عملهم ونصبهم؛ فإنهم لو عملوا عشر معشار ذلك في الدنيا، لكفاهم عملا ونصبا، ورزقهم الله جنة ونعيما.
- إن عاقبة هذا الفريق الخاسر هي النار الحامية؛ يذوقون حرها مباشرة ومن دون وقاية. أليسوا قد فَجَروا في الدنيا، ولم يتقوا نار جهنم فيها؟
صلى بالنار: لزمها واحترق بها، والحامية: حارة (شديدة الحر).
ولعل كل هذه الصفات ذكرت لكي لا تحتمل النار التأويل؛ فيقول البعض؛ مثلا: إن النار لا تحرق! أَوَ ليست بِحارة! اَوَ بينها وبين الإنسان حجاب! كلا؛ لا مفر منها ومن لهبها أبدا.
- إن شدة الحر وتواصل الاحتراق بالنار يجعل أهلها من عطش شديد؛ فيطلبون الماء؛ فلا يُعطَونَه ألف عام، وبعده يعرضون على عين آنية قد بلغت من الحرارة أناها ومنتهاها.
وقيل: إن جهنم أوقدت عليها منذ أن خلقت؛ هكذا يدفعون إليها وردا شرابا، وساءت شرابا وساءت مرتفقا.
- إذا طلبوا طعاما، قُدم لهم شيء أَمَرَّ من «الصبر» يسمى بـ «الضريع»؛ فـ ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾. إنه طعام يتضرع أكله من شدة خشونته ومرارته ونتنه، إنه، حسبما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «شيء يكون في النار يشبه الشوك، أشد مرارة من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأحر من النار؛ سماه الله ضريعا»(6).
- إن العالم الآخر يختلف عن عالمنا، وإنما تتشابه الألفاظ لكي ندرك ما يمكن أن ندرك من ذلك العالم؛ وإلا فإن كل شيء هناك مختلف عما لدينا؛ فالنار غير نارنا، وجلود أهلها غير جلودهم هنا، والعقارب والحيات وشجرة الزقوم ليست كأمثالها في الدنيا التي تحترق في لمحة بصر لو تعرضت لنيران جهنم.
كلا؛ إنها جميعا خلقت لذلك العالم وبمقاييسه، كما أن الزمن هناك غير الزمن هنا.
وإذا فسرنا كلمة من كلمات القرآن التي توضح الآخرة؛ فليس إلا تفسيرا قريبا من واقعها، وليس تفسيرا دقيقا.
هكذا الضريع، وهو في الدنيا - كما قالوا -: نبت ذو شوك لاصق بالأرض؛ تسميه قريش «الشبرق» اذا كان رطبا؛ فاذا يبس فهو «الضريع»، لا تقربه دابة ولا بهيمة ولا ترعاه، وهو سم قاتل، وهو أخبث الطعام وأشنعه.
وهذا الطعام نوع من العذاب؛ لأنه ليس فيه أية منفعة من الطعام؛ فهو لا يعوض خلاياهم المفقودة، ولا يطفئ لهيب الجوع؛ إنه ﴿لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾.
ولو أنهم اجتنبوا السحت في الدنيا؛ لاتقوا الضريع في الآخرة.
- في الجهة الأخرى تجد أهل الجنة كأفضل ما يكونون، فهنا ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾؛ أي: منعمة؛
قد أشرقت وجوههم بآثار النعمة حتى تجلت نضارتها لكل عين. أوليست النعمة إذا بلغت كمالها ظهرت في الوجه؟
ويظهر من وجوههم رضاهم القلبي بما عملوا في الدنيا؛ لأنهم وجدوا عاقبة أمرهم الحسنى؛ فهي {لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}.
أَوَ تدري أين هم ساكنون؟ هناك في الأعالــي حيث يتفيؤون ظلال الأشجار ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾؛ أي في المقام العالي؛ بينما النار في الدركات السفلى.
- اذا اطمأنت النفس بالرضا والمقام السامي، والجسد بالفواكه والظلال الوارفة؛ فان الانسان بحاجة الى الأمن الذي يجده هؤلاء في أتم صوره؛ فلا اعتداء، ولا بغي، ولا ظلم، ولا غش، ولا احتيال؛ بل ولا كلمة نابية تنال مقدساتهم مثل (كلمات الشرك التي آذتهم في الدنيا)، أو تنال أشخاصهم مثل (الفحش والسب والغيبة والتهمة وما أشبه)، ولا حتى كلمات عبثية (كالتي يتناولها البطالون)، فيتلفون أوقاتهم بلا فائدة. كلا؛ إنهم في سلام شامل؛ فـ ﴿لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾؛ أي: لا تسمع فيها كلمة لغو. كذلك كانوا في الدنيا، إذا مروا باللغو مروا كراما؛ كانوا لا يتعرضون لأحد بكلمة بذيئة، ويتحملون أذى الناس؛ كاظمين، عافين، محسنين؛ فجزاهم الله بحياة زاخرة بالسلام والرضا. بلى؛ المؤمنون يصنعون لأنفسهم - وضمن بيئتهم الخاصة وفي حدود إمكانات الدنيا - صورة مصغرة للجنة، يتنعمون فيها قبل أن ينتقلوا إلى جنة الخلد الأبدية.
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ﴾ الحقيقة ﴿الْغَاشِيَةِ﴾ التي تغشى كل شيء؟ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ في ذلك اليوم وهو يوم القيامة ﴿خَاشِعَةٌ﴾ خشوع الهيبة والذل ﴿عَامِلَةٌ﴾ بعمل لا فائدة لهم، و﴿نَّاصِبَةٌ﴾ نصبا بلا ربح ومكسب ﴿تَصْلَىٰ﴾؛ أي: تلازم وتحترق ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي: شديدة الحر ﴿تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾؛ أي: بلغت من الحرارة منتهاها ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾ يتضرع أكله ﴿لَّا يُسْمِنُ﴾ إذ لا يعوض الخلايا المفقودة ﴿وَلَا يُغْنِي مِن﴾ لهيب ﴿جُوعٍ﴾.
وفي الجهة الأخرى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾؛ أي: منعمة ﴿لِّسَعْيِهَا﴾ بما عملوا في الدنيا ﴿رَاضِيَةٌ﴾؛ لأنهم وجدوا الحسنى، وهم في الأعالي ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ المقام ﴿لَّا تَسْمَعُ فِيهَا﴾ كلمة (لَاغِيَة}.
-------------------