A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - الأنبياء وتجارب الإصلاح مع الأمم (2)

الأنبياء وتجارب الإصلاح مع الأمم (2)
موسى، عليه السلام، ومواجهة (التقلبات) في المجتمع
كتبه: السيد سجاد المدرسي
حرر في: 2018/01/04
القراءات: 1456

 

-1-

«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ»(1)

بهذه الجملة الصاعقة نبّه النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بما سيجري في الأمة الإسلامية من ابتلاءات وامتحانات مرّت على الأمم السابقة؛ كبني إسرائيل في زمن النبي موسى، عليه السلام، أو بعد مجيء النبي عيسى ابن مريم، عليهما السلام، وما تكرار القرآن الكريم لقصة النبي موسى مع فرعون من جهة، ومع قومه من جهة أخرى في أكثر من سبعين مورد إلا لبيان أهمية هذه الحوادث وضرورة الاعتبار بها كيلا يكرر المسلمون الأخطاء ذاتها فيبتلوا بنتائج سيئة.

 

-2-

تعصف بالمرء موجات مختلفة ذات اليمين وذات الشمال، وهو مطالبٌ باتخاذ موقفٍ واضح إزاءها، أما أن يكون متقلباً مع تقلب الموجة، فلا يرجى منه خير قط؛ بل لا يكون المرء مؤمناً حتى يمحّص ويبتلى، ذلك لأن مجرد ادعاء الإيمان أمرٌ يقدر عليه كل فرد.

وداء «التقلّب» قد يعم المجتمع كله فيتحرك ذات اليمين وذات الشمال مع نعق الناعقين، فيصبح بثقافة ويمسى مع أخرى، وربما رأيته يصبح مؤمناً ملتحياً ولكنه يحلقها عند المساء لانقلاب الكفة ضد «المتدينين»، وربما طبّل للرأسمالية، ولكنه لا تمر عليه الأيام حتى يصدح بلعنها.

وليس مرض «التقلّب» مرضاً نادراً، بل هو من الأمراض الشائعة في الأمم على اختلافهم في الزمان والمكان، كما أنه ليس مرضاً مجهول الأسباب والأعراض.

 

-3-

بعد جهادٍ عظيم، تمثّلت بعض فصوله في الهجرة خوفاً من القتل، والابتعاد عن الأوطان وتحمل السجن والاستهزاء بالرغم من الآيات البينّات المختلفة، تحقق وعد الله سبحانه بنصر الله، سبحانه، موسى على فرعون وجبروته، بعد أن عزم فرعون على قتل موسى وبني إسرائيل الذين اتخذوا الخروج من مصر سبيلاً لخلاصهم، حيث أنهكهم الاضطهاد والقمع في ظل الحكم الفرعوني الذي لم يكن قتل الرجال واستحياء النساء وتسخير العاملين إلا بعض فصول الجور عليهم.

خرج موسى وقومه وخرج فرعون وجنده على أثرهم، وجاوز الرب ببني إسرائيل البحر، وأغرق فرعون وجنوده، فانتهت بتلك الحادثة العظيمة حياة أعتى طاغية، كما انتهت - أيضاً - حياة حضارةٍ في أوج قوتها وعنفوانها.

 

-4-

وبانتهاء حياة فرعون، بدأت فصولٌ جديدة من جهاد النبي العظيم موسى، عليه السلام، ولكن هذه المرة لم يكن جهاده مع الكفّار، بل كان جهاداً في قومه ومع من أنقذهم بالأمس من جبروت فرعون وطغيانه.

صحيحٌ أن بني إسرائيل أظهروا الإيمان بموسى ورسالته، وأعلنوا اتباعه وأخيه هارون، عليهما السلام، ولكنهم لم يكونوا قد بلغوا مرتبة الإيمان الحقيقي، كما أنهم لم يكونوا مؤهلين لبناء أمة صالحة، ولذلك شرع النبي موسى، عليه السلام، بمعونة أخيه، بحركة بناء الأمة المؤمنة والصالحة بناءً جذرياً.

 

 مرض التقلّب على مراحل

وقبل أن يبدأ النبي موسى، عليه السلام، بترسيخ أسس الإيمان، ظهرت تطفو على السطح الأمراض الداخلية في بني إسرائيل والذي كان أولها مرض التقلب، فهم بالأمس كانوا يعبدون الله وحده، إذ أنهم في ساعات العسرة والشدة لا يجدون ملجأ غير حصن الله سبحانه، ففي تلك الساعة يرفض قلب الإنسان الأنداد من دون الله عزوجل، حتى لو كان قوياً في سلطانه ظاهراً كفرعون، ولكنهم ما إن تجاوزوا البحر حنّوا إلى الشرك بالله سبحانه، وبدأت بذلك معاناة النبي العظيم، عليه السلام، مع قومه في محاربة مرض «التقلب» والارتداد إلى المربع الأول. وفي ما يلي بعض المحطات التي ذكرها القرآن الكريم:

 

4/1

بعد أن جاوز الله ببني إسرائيل البحر، وقبل أن يلتقطوا أنفاسهم من تلك المسيرة الشاقّة، ظهرت معالم المرض، حين رأوا أقواماً يعكفون على أصنامٍ لهم، يعبدونها من دون الله، وإذا ببني إسرائيل يطالبون نبيهم موسى، عليه السلام، أن يجعل لهم إلهاً من جنس آلهتهم، دون إلتفاتٍ منهم إلى أن جوهر حركة الأنبياء ومنهم موسى، عليه السلام، هي تخليص الناس من عبادة ما سوى الله سبحانه؛ حجراً كان - كالأصنام -، أم بشراً كان - كفرعون -. قال الله سبحانه:

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، (سورة الأعراف: 138).

ويبدو أن عدم رسوخ الإيمان في قلوبهم والتأثر القسري والحنين للثقافة الفرعونية، هي العوامل التي كانت وراء هذا النكوص، وكما يقول المرجع المدرسي: «إن قوم موسى، عليه السلام، عاشوا ردحاً طويلًا من الزمن وهم يعانون الذل والخضوع والاستسلام للآخرين، وكانت السياسة الطاغوتية لفرعون هي التي فرضت عليهم هذه الحالة، ولكنهم - على أي حال - تأثروا بها نفسيا؛ فحين أنقذهم الله غيبيا بقيت آثار تلك السيطرة عالقة بنفوسهم، ولم يقدروا على ممارسة حريتهم والحضور في ساحات الحياة، واتخاذ القرارات المناسبة فيها اعتمادا على أنفسهم، لذلك حنوا إلى حالتهم السابقة».(2)

وفي مقابل مطالبتهم الباطلة، راح النبي موسى، عليه السلام، يشرح لهم الحقائق انطلاقاً من جهلهم بها، حيث صرّح لهم، أولاً وقبل كل شيء، بأنهم قومٌ يجهلون؛ وما وقوعهم في هذا الخطأ العظيم إلا لجهلهم بحقيقة الإيمان وعدم معرفتهم لله سبحانه.

وبعد هذه الصعقة القوية، بيّن لهم النبي، عليه السلام، بطلان عمل هؤلاء وعدم استمراريته، فبنيان القوم العقدي والثقافي قائمٌ على شفا جرفٍ هارٍ، قال الله سبحانه:

{إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، (سورة الأعراف: 139).

ولم يكتفِ النبي موسى، عليه السلام، ببيان ما يؤول إليه أمر المشركين؛ بل راح يذكّرهم بالله سبحانه الذي فضّلهم على العالمين وأنقذهم من جور فرعون وطغيانه، ليزدادوا معرفةً وإيماناً بالله الذي لا رب غيره، قال تعالى:

{قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، (سورة الأعراف: 140-141)

 

4/2

أمر الله نبيه بالصعود إلى الطور لمناجاته ثلاثين يوماً وأتمها بعشرة أيام؛ فتم ميقات الله مع كليمه، عليه السلام، أربعين يوماً، وهي ليست بالمدة الطويلة نسبياً، إلا أنها كانت كافية لاستغلال المنحرفين الفراغ القيادي - لوجود هارون، عليه السلام - والضعف المعرفي والخواء الثقافي لبني إسرائيل، لإعادة الأمة إلى الشرك بالله سبحانه، من خلال صناعة عجلٍ من ذهب، وعدّه إله موسى وهارون، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وبالفعل؛ هرع بنو إسرائيل لعبادته والسجود له، رغم نهي هارون وتنديده، وكان سجودهم للعجل بسبب أنهم: «لا يزالون عبيدا في نفوسهم بالرغم من تحررهم الظاهر. هؤلاء كانوا بحاجة إلى ثورة ثقافية قوية تحرر نفوسهم من الذل والخنوع».(3)

قال الله سبحانه: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ* ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، (سورة البقرة: 51-53).

إن عبادة العجل تعني وجود خللٍ في أصل العقيدة الذي يؤدي إلى الخواء الثقافي، وحين يضاف إليه الانبهار بالدنيا والنظرة الخاطئة إليها يكون هلاك الأمم بأيسر ما يكون، وظهر الفساد العقدي في بني إسرائيل في أكثر من موقف؛ مثل: طلبهم للأصنام - كما مرّ- ومثل عبادة العجل، ومثل طلبهم من النبي موسى، عليه السلام، أن يريهم الله جهرةً.

ومن هنا؛ عالج القرآن الكريم معادلة الانحراف في هذه الآيات، حيث أمر الله نبيه بأن يتلو عليهم الكتاب وفيه الرؤى العقدية الثابتة والفرقان الذي حوى على البصائر التفصيلية للحياة، كل ذلك لهدايتهم.

أما النظرة الخاطئة إلى المادة واستحبابها فقد بقيت راسخة في نفوس البعض؛ ولذلك أحتاج الأمر إلى عملية التطهير التامة، يقول المرجع المدرسي: «ولكن انتهاء عبادة المال، من قِبَل أكثر الأمة، لم يدل على انتهاء دور الثروة في تهديد تحرر الأمة اجتماعيًّا، إذ كانت هناك طبقة قد أشربت قلوبهم بحب العجل. وكانت الأمة بحاجة إلى عملية تطهير، لتصفية العناصر الخبيثة منها»(4) {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، (سورة البقرة: 54).

 

4/3

بريق المادة يهزّ أقوى الرجال واعتاهم ما لم يتسلحوا بسلاح البصيرة، والتي تعني مسؤولية المال وكونه مجرد وسيلة لاكتساب الآخرة - والتي منها إمرار المعاش والتوسعة على العيال -، أما من ينظر إلى المال نظرة ذاتية فتراه تضعف قدماه أمام الأوراق الخضراء والحمراء، ويتلعثم في قول الحق حين تعرض عليه الصكوك الموقعة بمبالغ كبيرة، وقد يتراجع الشخص عن كل مبادئه التي أظهرها طيلة حياته إذا ما مُحّص في امتحان المادة.

وفي بني إسرائيل بقيت هذه المشكلة في نفوس البعض حيث لم يلبثوا أن تمنوا المال والزينة على الإيمان بالله واليوم الآخر الذي كان رصيدهم الأساس في الحياة. لنستمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي قصة قارون وما جرى على بعض أبناء المجتمع الإسرائيلي حين شاهدوا موكب مفاتح زينته، قال الله سبحانه: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحينَ}، (سورة القصص: 76- 78).

بغى الرجل بسبب ما آتاه الله من الكنوز؛ ولكن كانت هناك فئة مؤمنة لم تنخدع بما يملك، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود من يتأثر بتلك المظاهر. قال الله سبحانه: {فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ في‏ زينَتِهِ قالَ الَّذينَ يُريدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ * وَقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرينَ}، (سورة القصص: 79-81).

 فلما تقشعّت سحب الابتلاء وخسف الله بقارون وما يملك من زينة، انتبه المترددون مرّةً أخرى، وعادوا إلى رشدهم، قال الله سبحانه:

{وَأَصْبَحَ الَّذينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}، (سورة القصص: 82).

 

-5-

واقعنا اليوم!

وواقع مجتمعاتنا اليوم ليس بعيداً جداً عما كان يعانيه بنو إسرائيل من حالات التقلب، تلك التي نتجت بسبب عدم امتلاكهم الرصيد المعرفي الصحيح، وعدم تسلحهم بالثقافة النقية، مضافاً إلى غلبة الشهوات على نور العقل.

وهذه العوامل ذاتها التي تجعل فئاماً من أبناء المجتمعات الإسلامية تنقلب على عقبها في ساعات الإمتحان وتفشل في اختيار موقفٍ ثابت وصحيح.

فبعد أن تخلص الشعب العراقي - مثلاً- من جبروت صدام وظلمه، وانفتحت أمامه آفاق الحرية، نجد أن البعض منهم انحرف عن الصراط القويم.

إما بكفره بالدين وبما جاء به الوحي، أو بانتحاله مذاهب عقدية منحرفة ذات اليمين أو الشمال.

ولا يمكن الوقوف أمام هذا المرض ومعالجته بصورة صحيحة إلا بالعمل بما قام به الأنبياء مثل النبي موسى، عليه السلام، من إعادة بناء الصرح العقدي والذي يعني - في ما يعنيه - تصحيح الثقافة، وتصحيح الرؤية تجاه الحياة وحوادثها.

------------------------------------

(1) بحار الأنوار/ ج28/ ص 30

(2) من هدى القرآن / ج3/ ص 105

(3) بحار الأنوار/ ج28/ ص 30

(4) من هدى القرآن/ ج 1/ ص 185.


ارسل لصديق