Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
عندما يجري الحديث عن الفساد المالي في أي بلد، يتبادر الى الأذهان فوراً؛ الرشوة، والاختلاس، وما أشبهها من مفردات اللصوصية في دوائر الدولة، وهو معنى ليس ببعيد، ولكن؛ اذا ما أردنا التفكير بعلاج هذه الظاهرة الاجتماعية، نكون بحاجة الى البحث في الجذور، ولماذا يجب ان ينساق مجتمع بأكمله الى ظاهرة كهذه وبملء ارادته، رغم النتائج الكارثية؟
للإنسان قوتان تتجاذبانه؛ قوة الطبيعة، وقوة القيم، وقد تقوده إحدى القوتين بصورة مطلقة، او تشتركان في قيادته عبر ظروف مختلفة، وفي حالات متباينة، ونقصد بقوة الطبيعة؛ كل ما في الحياة من قدرات وإمكانات، وليس المال وحسب، فربما هنالك العقارات والامتيازات والمناصب السياسية وما أشبه ذلك.
وعندما تغلب على الانسان والمجتمع، إحدى القوتين، فإنها تطبع بذلك صفاته العامة وطريقة حياته وحتى طريقة تفكيره، ومن السهل ملاحظة المجتمع الذي يسيّره التملك والتسيّد، كيف تكون طبيعته؟ في المقابل؛ كيف تكون طبيعة المجتمع الذي يحتكم الى القيم الأخلاقية والإنسانية؟
وطيلة قرون من الزمن حاول المفكرون والثائرون إيجاد الطريق لإنقاذ البشرية من مساوئ الاعتماد على قوة الطبيعة، فكانت الثورة على الإقطاع في اوربا لوضع حد لاستغلال الفلاحين، وتحديد سلطة الأثرياء في المجتمع، بيد أن المفاجأة في تخلّص البشرية من صنم الإقطاع ومواجهة صنم جديد يفرض عليهم وهو؛ صنم الماركسية والاشتراكية، مجسداً بذلك اقتصاد الدولة واستبدادها بكل شيء، في مقابل النظام الرأسمالي الذي يعطي للانسان الحرية في كل شيء.
وإذن؛ لم تحصل البشرية على صياغة معقولة للعلاقة بين الانسان والقوة الطبيعية الجامحة، فقد بقيت الثروة والقدرات المادية عامل أزمة ومشكلة، وليس وسيلة للسعادة، إنما تغيّرت الوجوه التي تمثل هذه القوة، فمن يد الإقطاع والرأسمالية الى يد الدولة ومؤسساتها، ومن ثمّ فان هذه القوة بقيت تتحكم بمصير الانسان، وقد نبه العلماء الى أن اساس المشكلة في خضوع الانسان نفسه والمجتمع ايضاً، الى هذه القوة من خلال الابتعاد عن القيم، وعندما تذوب القيم الأخلاقية والإنسانية في بوتقة الثروة، لا جدوى من السؤال عمن يمتلك هذه الثروة ويتسلط على الناس فربما نجد هذا التسلط متمثلاً في السوق وشريحة التجار، وربما نجده متمثلاً في المهنيين، ممن يعوّل عليهم في المجتمع، مثل شريحة الأطباء والمهندسين والمحامين، هذا فضلاً عما يعاني منه معظم افراد المجتمع من الفساد في دوائر الدولة.
واذا أتينا الى أي واحد من هؤلاء المتعكزين على قوة المادة، ونستفهم منهم سبب استغلالهم هذه القوة المتاحة لهم في إرهاق الناس وتعريض حياتهم للضغوطات والاستفزازات الرهيبة، يأتيك التبرير؛ بأننا نمارس مهنتنا الصعبة والشاقة وهي تتطلب الأجور، بل وتتطلب التقدير من لدن المواطن والمراجع، وكل ما نحصل عليه هو حقنا! وربما يكون هذا تبرير الموظف في مؤسسات الدولة، بأنه إنما يعمل على تسهيل أمور الناس!
الاجراءات التي نشهدها في هذا البلد او ذاك، لاسيما في العراق، تستهدف الفساد المالي، تعجز عن معالجة المشكلة جذرياً، إنما تلامس المظاهر، فتطرد هذا، وتفضح ذاك، او حتى تصدر أحكاماً بالسجن والغرامة، وهي ربما تكون رادعة، بيد أن القضية المرتبطة اساساً بنفس الانسان بحاجة الى ضمانات للحل النهائي والجذري، وهذا يتيسّر بما يلي:
أولاً: التوزيع العادل للثروة
تكثر المطالبات في هذا الاتجاه في مناسبات عدّة، حتى تحولت الى نوع من الشعار ترفعه جهات سياسية او منظمات وجمعيات، وبما أن المسألة لها بعدها الاقتصادي الواضح، وتمثل إحدى ملامح العلاقة بين القيادة والجماهير، فان إيجاد مصاديق عملية لها يعتمد على منهجين؛ الاول: منهج الشريعة الاسلامية، والثاني: المنهج السياسي المتبع لدى الأنظمة الحاكمة، فالأول: يدعو الى اعتماد قانون الخمس والزكاة على أنها الوسيلة الفضلى للتوزيع العادل للثروة. بينما القانون الوضعي ذهب الى «الضريبة» على الإنتاج والتملك وأمور أخرى، وقد أثبت هذا القانون وهذه النظرية التي ما تزال دول العالم متشبثة بها، فشلها الذريع في تحقيق المطلوب، بدليل استمرار وجود الفاصلة الكبيرة بين الشريحة الفقيرة والشريحة الغنية، والأمثلة على ذلك كثيرة، يكفي أن نعرف أن الأغنياء في كل مكان، لهم القدرة على التهرّب الضريبي للحفاظ على ثروتهم، فيما يعجز الفقراء عن ذلك، وهم بالكاد يحصلون على لقمة عيشهم.
ثانياً: الكفّ عن احتكار الأرض
يعالج الإسلام مشكلة الأرض، هذا المورد الرئيس والهام في حياة الانسان، تطبيقاً لقانون: «الأرض لمن عمّرها»، وفي الوقت الحاضر فان الدولة في كل مكان هي التي تحتكر ملكية الأرض، وهي شخصية غير محددة او واضحة، فربما تتجسد في ملك، او رئيس جمهورية، او حزب حاكم، او ربما أحزاب متعددة، كما هو الحال في العراق.
ثالثاً: محاربة الاحتكار
في نظر الإسلام، فان السلع الضرورية، مثل الغذاء والدواء والوقود، تمثل مواد مشتركة المنافع بين الناس، فلا يحق لأحد احتكارها، بمعنى؛ ان كل مادة تكون ذات حاجة اجتماعية شاملة، يكون الناس فيها شركاء، وجاء في رواية عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «الناس شركاء في ثلاث: النار، والماء، والكلاء».
رابعاً: ضبط التجارة الخارجية
على المسؤولين في الدولة الانتباه الى عدم استغلال التجار حاجات الناس من السلع الضرورية المستوردة من الخارج، ويكون هذا الاستغلال بشعاً مع عجز بعض الحكومات عن توفير السلع الضرورية للناس، لاسيما المواد الغذائية والدوائية.
خامساً: فصل العلم عن الثروة
وهو من الضمانات الاسلامية الفاعلة في هذا المجال، إذ ان الثروة لا تتمكن من استغلال الناس إلا تحت غطاء العلم، وعن طريق العلماء، فالعلماء الراكعون على أبواب الأثرياء والتجار، والذين يبيعون علمهم بثمن بخس، كانوا دائماً السبب في انتشار الفساد المالي، وتحول الأثرياء الى قوة متجبرة في المجتمع.
ســــــــادساً: رفـــــع المســـــتوى العلمي والاقتصادي للناس
ثبت من الناحية التاريخية أن تدني المستوى العلمي والثقافي وايضاً الاقتصادي لأفراد المجتمع هو الذي يمكّن اصحاب الثروة والقدرة على استغلال الناس، فالمجتمع الذي تنتشر فيه الأمية، وينحسر فيه الوعي الاقتصادي والسياسي، يكون مادة دسمة للمستغلين، لذا جاءت التوصيات والدعوات المؤكدة من المعصوم على ضرورة التعلّم واكتساب التجارب والخبرات في المجالات كافة، ومما جاء في الاحاديث الشريفة:
«العارف بأمور زمانه لا تهجم عليه اللوابس».
إن الاسلام يجعل طلب العلم فوق كل الواجبات، ويشترط أن يقترن ذلك بالوعي، فلا يجتهد الناس في طلب علوم بعيدة عن واقعهم، بل ينبغي ان يكون العلم فيما يخص الانسان مباشرة، ويعالج مشاكله ويلبي احتياجاته التي يواجهها في زمانه، من معرفة أهل زمانه، وطبيعة القوى والتيارات الحاكمة في الحياة، أي ان تكون علومه في المجالات التي تلامس الواقع الذي يعيشه مثل؛ الاقتصاد والاجتماع والقانون والسياسة، الى جانب العلوم الطبيعية ذات الصلة بحياة الانسان.
ومما مرّ، يتضح لنا أن ظاهرة الفساد المالي أشبه ما تكون بفيروس يضرب الجسد الفاقد للمناعة، فكلما تحصّن المجتمع بعوامل مضادة وعناصر قوة، تمكن من مقاومة هذه الظاهرة والوقوف بقوة امامها في كل الاوقات.
وما نشهده من افرازات سيئة لهذه الظاهرة، إنما هي بسبب حالة العجز المريرة التي يمر بها الناس، ولا أدلّ على ذلك؛ الوضع الذي يعيشه الشعب العراقي، بين عديد الشعوب المغلوب على أمرها في ظل سياسات متعثرة وأنظمة حكم بعدُ لم تهتدِ الى الطريق الصحيح لإدارة شؤون الناس بالشكل الذي يضمن الحياة الطيبة البعيدة عن الازمات والمشاكل.
وبكلمة؛ فان هدف الإسلام في الحياة الاجتماعية؛ أن يجعل المال خاضعاً للإنسان، وليس حاكماً عليه، وان يجعل الانسان مسخراً للحياة لا تابعاً لما فيها من متاع زائل، وهذا الهدف العام، يحققه الاسلام عبر مجموعة ضخمة من التعليمات التربوية، والأحكام الاجتماعية والوصايا الأخلاقية.