Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
«إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد الّا ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه
فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه»
لعلّ من مصاديق الحديث النبويّ الشريف: «حسين منّي وأنا من حسين»1 أنّ الراية التي حملها الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء كانت امتدادا للرسالة التي حملها النبيّ صلى الله عليه وآله يوم مبعثه، بل هي نفسها في المحتوى والمضمون، وأنّ خلاصتها ليست إلّا شيئاً واحدا، ألا وهو التوحيد، و أن؛ «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، ونبذ الأصنام الحجرية منها والبشرية.
ولهذا كان سيّد الشهداء عليه السلام، يؤكد على هذه المسألة في مختلف مراحل نهضته، بل وقبلها، وإلى آخر ساعة من حياته، متّبعا بذلك خطى جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله الذي بعثه الله تعالى لإخراج عباده من عبادة الأوثان الى عبادة الرحمن، ومن طاعة الشيطان والأهواء الى طاعة الحيّ القيّوم، ومن عهود الناس الى عهود ربّ الناس.
أمّا أدعيته ومناجاته فقد عكست ما كتب على يمين العرش من أنّ الإمام الحسين عليه السلام «مصباح هدى وسفينة نجاة»2 ، فإنّه مصباح لمن استصبح به في معرفة الله سبحانه، فهو قبل أن يكون إماما في السلوك والأخلاق والفضائل، كان إماما في التوحيد والعقيدة والإيمان، فقد علّمنا صلوات الله عليه أدب التكلّم مع الربّ تعالى، يكفيك من ذلك دعاؤه المعروف يوم عرفة، حيث فتح لنا آفاقا من المعرفة، وعلّمنا كيفيّة شكر الربّ تعالى مبيّنا أنّ روح الشكر يكمن في وجدان عدم إمكان شكر نعمة واحدة من نعمه التي لا تُحدّ، وذكّر بتقصير العبد في قبال آلاء مولاه مبيّناً بأنّ كلّ خير من الله تعالى وكلّ شر من العبد، وأرشد الى لزوم الإعتماد عليه تعالى لا على الأعمال فإنّ العارفين به تعالى لا يرون لأعمالهم شأنا أمام عظمته، جلّ ذكره، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.
ومن أجل كلمة التوحيد كان جهاده مع بني أمّية، فحينما سأله نصر عن قوله تعالى : «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِم» قال عليه السلام : «نحن وبنو أمّية اختصمنا في الله عزّوجلّ قلنا صدق الله وقالوا كذب الله فنحن واياّهم الخصمان يوم القيامة».3 فكربلاء مؤسّسة على الإيمان بالله تعالى والتصديق به ونبذ الكفر والشرك.
إنّ بني أميّة لم يؤمنوا بالله تعالى طرفة عين ولم يطلبوا الحكم لأجل الحكم فحسب، بل قصدوا وراء ذلك دفن الحقّ بكلّ معالمه وإطفاء نور التوحيد وسحب بساط النبوة، ولمّا كان أئمة الهدى عليهم السلام، السدّ المنيع في قبال مكرهم حاولوا جهدهم في كسره بالقضاء عليهم، غافلين عن أنّ فعلهم هو محاربة لله تعالى وهو سعي لإطفاء نور الله جلّ جلاله، «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ»4.
بنو أميّة ومذهب الجبر
من جملة سياسات الحزب الأمويّ هو بثّ فكرة الجبر في الناس والقول بأن كلّ الأفعال هي بقضاء الله وقدره، وليس لأحد أن يعترض على ذلك، والسبب في ذلك حتّى إذا ما فعلوا ما يحلو لهم من الموبقات والآثام والفواحش تذرّعوا بأنّ إرادة الله اقتضت كلّ ذلك، وأنّه ما أراده منهم – حاشاه تعالى- وبذلك يمنعون كلّ من يريد الاعتراض على فسقهم وجورهم ويريد الثورة على ظلمهم، بل ينكّلون بمن خرج عليهم أشدّ تنكيل لأنّه يسعى إلى الحرب مع الله!
ومعلوم أنّ العبد إذا نسب أفعاله الى الله تعالى ـ مع أنّه سبحانه توعّد المذنبين بالعذاب الأليم ـ يكون قد ألجأهم عليها وألقاهم مكتوفي الأيدي في التهلكة وهذا عين الظلم.
في الخبر أنّه كتب الحسن بن أبي حسن البصري الى الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام، يسأله عن القدر فكتب اليه سيّد الشهداء عليه السلام :
«فاتّبع ما شرحت لك في القدر ممّا أفضي إلينا أهل البيت فإنّه من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله عزّوجلّ فقد افترى على الله افتراء عظيما، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُطاع بإكراه ولا يعصى بغلبة ولا يهمل العباد في الهلكة, لكنّه المالك لما ملّكهم والقادر لما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله صادّا عنها مبطئا، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل، وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسرا ولا كلّفهم جبرا بل بتمكينه إيّاهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم طوّقهم ومكّنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم وترك ما عنه نهاهم، جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه ولترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه والحمد لله الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوّة وما نهاهم عنه وجعل العذر لمن يجعل له السبيل حمدا متقبلا فأنا على ذلك أذهب وبه أقول والله وأنا وأصحابي أيضا عليه وله الحمد»5.
إنّ الإمام عليه السلام أشار الى لابدّية الإيمان بالقدر خيره وشرّه، ذلك أنّ الله تعالى غير منعزل عن خليقته فليس لهم أن يفعلوا ما شاؤوا وهو نفي لمذهب المفوّضة الذي ذهبوا إلى أن العبد مستغنٍ في أفعاله عن الله فأنكروا القضاء والقدر، كما ورد في الخبر عن الإمام الرضا عليه السلام حينما سأله هل فوّض الله الأمر الى عباده؟ فأجاب عليه السلام : «الله أعزّ من ذلك»6. الّا أنّ سلطان الله تعالى على العبد ليس سلطانا يسلبه أفعاله الإختياريّة فهو الذي أراد أن يكون العبد قادرا شائيّا، ثمّ إنّ الإمام بيّن نفي الجبر وأوضح بأنّ الله تعالى لا يحمل العباد على المعاصي فإنّ ذلك افتراء محض على الله تعالى.
ثمّ أشار الإمام عليه السلام الى روح الحقيقة في قضيّة القدر والقضاء قائلا : «ولكنّه المالك لما ملّكهم والقادر على ما عليه أقدرهم»، فإنّ الله تعالى وإن ملّكهم الإختيار ووهبهم القدرة على الفعل والترك بحيث تصدر الأفعال وفقا لمراد العبد، الّا أنّ إفاضة القدرة عليهم مرهون بإرادته تعالى آنا فآنا، فلا تنعزل قدرة العباد عن إرادة الله تعالى. ومن الواضح أنّ الفعل الصادر عن قدرة واختيار يكون منسوبا الى العبد لا الى معطي القدرة فإنّ القدرة ـ بمعنى الإستيلاء التامّ على طرفي الفعل والترك ـ توجب نسبة الفعل الصادر عن العبد القادر الى العبد نفسه لا الى معطي القدرة.
ثمّ أشار عليه السلام الى أنّ لله تعالى أن يحول بين العبد والمعصية بفعله العمديّ فإن فعل يكون ذلك لطفا منه تعالى وان لم يفعل لا يكون ذلك حملا على المعصية لصدور الفعل على أي حال عن القدرة والإختيار، فإنّه تعالى جعل لهم السبيل الى أخذ ما اليه دعاهم وترك ما عنه نهاهم.
الإمام الحسين ومحض العبوديّة
و أمّا في مقام تعبّده عليه السلام لربّه تعالى فقد أثبت التاريخ عبوديّة الإمام وقربه من الله تعالى ومدى انقطاعه اليه في جميع الأحوال. ففي ليلة العاشر طلب سيّد الشهداء من أخيه العبّاس عليه السلام التكلّم مع القوم وإمهالهم سواد الليل كي يصلّي لربّه ويتلو كتابه ويناجيه، وذلك حينما أخبره أخوه بمقصد القوم في الهجوم على مخيّمه ليلاً.
و لشدّة حبّه لمناجاة ربّه والصلاة له، كان يصلّى في اليوم والليلة ألف. و قيل لعلي بن الحسين عليهما السلام: ما أقل ولد أبيك؟ فقال عليه السلام: «العجب كيف ولدتُ كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة»7.
و في كلّ ركعة كان يصلّيها كان متوجّها بكلّه إلى مولاه، منقطعا عما سواه، بل كان إذا توضّأ تغيّر لونه وارتعدت مفاصله، فقيل له في ذلك فقال عليه السلام: «حقّ لمن وقف بين يدي الله الملك الجبّار أن يصفرّ لونه وترتعد مفاصله»8.
نعم هذا موقف العارف بالله تعالى فإنّه يعلم بين يدي من يقف ولذا تأخذه الرعدة فرقا منه ويصفرّ لونه خشية له.
و لما أقبلت الخيل اليه يوم عاشوراء توجّه الى الله تعالى بهذه الكلمات: «اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كلّ كَرْبٍ وأَنْتَ رَجَائِي فِي كلّ شِدَّةٍ وأَنْتَ لِي فِي كلّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وعُدَّةٌ كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ وتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ ويَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ ويَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ أَنْزَلْتُهُ بِكَ وشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ رَغْبَةً مِنِّي إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ فَفَرَّجْتَهُ وَ كَشَفْتَهُ فَأَنْتَ وَلِيُّ كلّ نِعْمَةٍ وصَاحِبُ كلّ حَسَنَةٍ ومُنْتَهَى كلّ رَغْبَةٍ».
و كان يكثر خلال الحرب من: «لا حول ولا قوّة بالله العليّ العظيم» كما ذكر المؤرخون : و إن كانت الرجال لتشدّ عليه عليه السلام فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه هرباً وهلعاً، ولقد كان يحمل فيهم، وكانوا يكتملون ألفا، لكنهم لا يلبثون أن ينهزموا بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر، ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول : «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»9.
و إذا نزل به شديد من الأمر تذكّر أنّه بعين الله تعالى..
قال لأخته زينب عليها السلام: «ناوليني ولدي الصغير حتّى أودعه»، فأخذه و أومأ إليه ليقبله فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي لعنه الله تعالى بسهم فوقع في نحره فذبحه فقال لزينب: «خذيه..»! ثمّ تلقى الدم بكفّيه فلمّا امتلأتا رمى بالدم نحو السماء، وقال : «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»10.
و لـمّا رماه أحد الأعداء بسهم في حلقه الشريف قال عليه السلام: «بسم الله وبالله ولا حول ولا قوّة الّا بالله وهذا قتيل في رضى الله»11. فإنّه عليه السلام كان يطلب رضى الله تعالى في كربلاء بل وفي كلّ خطوة من خطوات حياته المباركة.
وحتّى في ساعة سقوطه من على الجواد، لخّص حياته بأنّها من الله تعالى ولله وفي سبيل الله، وكان ذلك حينما أجهده نزف الدم وكثرة الجراحات فوقف عليه السلام يستريح ساعة وقد ضعف عن القتال، فبينما هو واقف، إذ أتاه حجر فوقع في جبهته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب، فوقع في صدره، فقال: عليه السلام: «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله»، و رفع عليه السلام رأسه إلى السماء وقال : «إلهي إنّك تعلم أنّهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن نبيّ غيره»، ثمّ أخذ السهم فأخرجه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فوضع يده على الجرح فلمّا امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة وما عرفت الحمرة في السماء حتّى رمى الإمام عليه السلام بدمه إلى السماء ثمّ وضع عليه السلام، يده ثانية، فلمّا امتلأت لطخ بها رأسه ولحيته وقال: «هكذا أكون حتّى ألقى جدي رسول الله وأنا مخضوب بدمي وأقول : يا رسول الله قتلني فلان وفلان»12.
وإذن؛ اختار الامام الحسين عليه السلام، لقاء الله تعالى على النصر كما جاء في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام : «لمّا التقى الحسين عليه السلام وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب أنزل النصر حتّى رفرف على رأس الحسين عليه السلام ثمّ خُيّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى فاختار لقاء الله تعالى»13.
والموت لقاء الله تعالى كما قال تعالى : «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (سورة العنكبوت /5).
هذه هي حياة من يكون حيّا بحياة الله تعالى، ويبذل مهجته لله تعالى ولذا يكون مقتله وشهادته حياة لأصحاب القلوب الطاهرة، فمن كان متّصلا بالله لا يموت، ومن كان حيّا بالله يصبح عين الحياة التي إن مسّت شيئاً أحيته.. «أشهد أنّك قُتلت ولم تمت، بل برجاء حياتك حييت قلوب شيعتك وبضياء نورك اهتدى الطالبون إليك، وأشهد أنّك نور الله الذي لم يطفأ ولا يطفأ أبدا، وأنّك وجه الله الذي لم يهلك ولا يهلك أبدا»14.
----------------
1- الإرشاد: 2/172، كامل الزيارات: 52، كشف اليقين: 305
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام : 1/60 ح29، الصراط المستقيم: 2/161
3- بحار الأنوار ج31/513
4- التوبة: 32
5- بحارالأنوار: 5/123
6- اصول الكافي: 1/157
7- بحار الأنوار: 44/196
8- العوالم: 17/61 ح1
9- بحار الأنوار: 45/50
10- اللهوف: 115
11- اللهوف: 54
12- بحار الأنوار: 46/52
13- بحار الأنوار: 45/12
14- البلد الامين: 284