A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - الأمن من زاوية نظر فقهية

الأمن من زاوية نظر فقهية
كتبه: العلامة الشيخ عبد الغني عباس
حرر في: 2013/04/08
القراءات: 1977

مفتتح

الأمن أمرٌ تشريعي وليس تكوينياً، إذ من المسلَّم به أن الله عز وجل بإمكانه تكويناً، إحلال الأمن والسلام في الواقع البشري، لكن حكمته تعالى اقتضت أن تكون للإنسان مدخلية في صناعة ما حوله بفعله، ولذا كان الأمن تشريعياً بمعنى أن هنالك جانباً من التشريعات الإلهية التي قررها الشرع، بمجرد امتثالها من المكلفين تتحقق حالة الأمن، وهذا جليّ في البيت الآمن، حيث حُرّم على المُحرم في الحج والعمرة قلع الشجر وصيد الطير وحمل السلاح وغيرها. هذه التشريعات وأمثالها، عبارة عن الأمن من الجهة التشريعية فهي مفتقرة إلى الفعل البشري إذن، وليس التكويني لوحده يناط به الأمن مع قدرته على ذلك.

 

الأمن والعقيدة

بعد معرفتنا أن الأمن تشريعي لا تكويني، تتجلى لنا الاستهدافات الحقيقية الكامنة وراء مجمل التشريعات الفقهية والفرعية، بل وحتى من أصل العبادة، حيث تُبيِّن لنا بعض الآيات القرآنية الغاية من العبادة وثمارها المتصورة منها، وفي ذلك يشير الله عز وجل إلى هذا المعنى في موارد كثيرة:

الأول: (سورة قريش)، «لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ»، ولا شك أن هذه السورة تتحدث بصراحة عن أن الاستهدافين الأساسيين هما البعدان الاقتصادي والأمني.

الثاني: ما ورد على لسان نبي الله يوسف حكايةً: «فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ» (سورة يوسف /69)، يذكر بعض المفسرين أن في ذلك وجهاً للمقارنة بين زمان النبي وآثاره وبين الأزمنة السابقة الفاقدة للأمن.

الثالث: ما جاء في الآية الشريفة معلقاً الوعد الإلهي بالأمن لمن عمل اتصف بالعقيدة والعمل الصالح، حيث يقول تعالى: «وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (سورة النور /55).

ولأن الاستهداف العَقَدِيّ للأمن، كان جلياً، انعكس ذلك في الحكمة من التشريعات الدينية، فغاية التقنين الفقهي، إنما هو حفظ الحقوق المختلفة، التي بواسطتها يمكن التوصل إلى الأمن بمختلف أشكاله، ولكن هذا الحق متصل بمعرفة الواجب، حيث إن الحق والواجب حالتان متعاكستان يراد منهما حفظ الحقوق وعدم سلب الأمن وعدم اختلال النظام، ولذا قالوا بأن الحق في المصطلح الديني يعني سيطرة من نوع خاص على شأن مادي كالمال والدار، أو شأن معنوي كحق العقيدة وتوافر اعتبارات معينة.

وفي قبال هذا الحق الممنوح يأتي الواجب الذي هو تعبير عن الإلزام الشرعي تحت عناوين مختلفة كالوجوب تارة والحرمة تارة أخرى الغاية منه الحفاظ على حق الآخر، لذا فإن الحق والواجب وجهان لعملة واحدة وهي الحفاظ على قيم معينة أرساها الله سبحانه وتعالى، وجعل لها العديد من القوانين والتشريعات الفقهية التفصيلية ومن أجل التعرف تفصيلاً على مفهوم الأمن في القرآن والشريعة، لا بد من التطرق بنوع من الإيجاز إلى هذه الدوائر الأربع:

 

الدائرة الأولى: الأمن البشري

من أهم أنواع الأمن التي ينشدها الإسلام، الأمن المتصل بالإنسان نفسه، وهذا يبدأ من الإنسان نفسه، وليس من الفقه القانوني، كما هو منهج نظام العالم اليوم، لذا فإن أفضل طريقة للتخلص من الانتهاكات الأمنية للإنسان تبدأ من الإنسان نفسه، ولذا جاءت الدعوة إلى الإيمان والإسلام، إذ الإيمان والإسلام معناهما المطوي سلامة الآخر؛ «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه».

1- الأمن الشخصي. سواء كان ماديًّا أو معنويًّا والذي زخرت الشريعة بتفصيلاته، وخلاصته سلب الحزن والهم من الإنسان، وهو في عرف القانون المعمول به اليوم ضمان عدم الاعتداء، «أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» (سورة يونس /62)، «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» (سورة الفتح /26)، ولكن الاعتراف بحقوق الآخر هو الطريق من أجل الحفاظ عليها، «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» وقد فسر المرجع المدرسي الآية بالاعتراف بالحقوق.

هنا يتطور الفقه التشريعي الديني على سائر الدساتير البشرية بالدعوة إلى الحفاظ على الأعراض والدماء تحت هذه العناوين: الاحتياط، الإعانة على الإثم، مقدمة الحرام حرام على التفصيل في نقاشها، فهو هنا يكتفي بمجرد الاحتمال لا العلم ولا الظن المعتبر.

الحفاظ على الإبداع وحق الاختراع ومن هذا الأمن الشخصي يتجلى الأمن الاجتماعي، فهما أمران متصلان ببعضهما البعض ومتداخلان، فمن أجل السلم والأمن الاجتماعي لابد من الأمن الشخصي بكافة أنواعه.

غير أنه في هذا الباب لا بد من البحث عن أساليب الضغط للحفاظ على الأمن الاجتماعي، من قبيل تطبيق الحدود وأنظمة القوانين، إذ إن «من أمن العقوبة أساء الأدب»، وهذا يجري في الحفاظ على المكتسبات المادية للمجتمع من مرافق عامة وغيرها.

 

الدائرة الثانية: الأمن والرزق

وهذا هو المشار إليه في الآية الكريمة حيث يقول تعالى: «وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ» (سورة النحل /112)، يقول السيد المرجع المدرسي في تفسير هذه الآية: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ»: يبدو من الآية أن للأمن درجات، وهكذا للرفاه الاجتماعي درجات، وإن هذه القرية كانت تعيش في أمن ظاهر وأمن قلبي، وهو أفضل درجات السلام، كما كانت تعيش على رزقها ورزق ما حولها من القرى، وهذا أفضل درجات الرفاه.. «فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ»، وعبّر القرآن عن وضعهم بعد الكفر بأنهم تخلفوا إلى أن أصبحوا يحيط بهم الجوع والخوف كما يحيط بهم اللباس. وقد لا تكون هذه القرية واحدة عبر التاريخ، فربما تشير الآية إلى آلاف القرى التي تردَّت إلى هذا المستوى بسبب كفرها، فاختلال الأمن يسد أبواب الرزق المشروع، بل ويفتح الأبواب غير المشروعة.

وهذا يعني ضرورة توفير فرص العمل، ولا شك أنها وظيفة من وظائف الدولة لمنع التعديات والتجاوزات.

 

الدائرة الثالثة: الأمن والحرية

لا يختلف أحد في أن الحرية أصل أصيل في الإسلام تحديداً، وأنها مقدمة على سائر الاعتبارات، لكن هل أن هذا التقدم مطلق أم أنه مشروط؟

يمكن القول هنا بأننا نميل إلى أن الحرية هنا لا تصبح مقدمة وإنما تتأخر رتبة، وينقلب حينها الموضوع من حرية التعبير إلى حرية الرأي من غير تعبير.

وإذا تعارض الأمن مع الحرية، وكان التعارض المستحكم بين أمن المجتمع وحريته، فكيف نصنع آنئذ؟.

إننا نعطي الحرية مساحتها الواسعة، لكنها كما ذكرنا هناك، تتأخر أيضاً رتبة هنا، ونشير إلى مثالين:

1- حرية أهل الذمة في بلاد الإسلام محددة بداخل بيوتهم، أما خارجاً لا يصح لهم التظاهر بما هو خارج عن مألوف أحكام الإسلام متذرعين بالحرية، بل إنهم مطالبون بالحفاظ على النسق الاجتماعي الإسلامي من حيث عدم تخريبه، بل وهذا الأمر يطلب من المسلمين أنفسهم، كما هو في حال المفطر الذي يهتك حرمة صيام شهر رمضان.

2- تقديم العمل بالقانون على الحرية الشخصية، ونقصد بالقانون هنا الحفاظ على الأمن، فإننا هنا مع وجود المصلحة الأهم نقدمها على الحرية الشخصية، ولذا ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب احترام القانون الوضعي بغض النظر عن واضعه، لأنه يلبي حاجة هي بمنزلة الأهم في الشريعة كنفس الإنسان مثلاً، فلا يجيز – مثلاً- تجاهل الإشارة الضوئية المرورية خوفاً على النفس البشرية. وهكذا عدم جواز التحايلات على القوانين الموضوعة للتنظيم الاجتماعي.

 

الدائرة الرابعة: حكومة قاعدتي الضرر ولا حرج:

تعريف الحكومة في علم الأصول هي أن الحكم الأولي كالوجوب ينتفي مع كونه حرجياً أو ضررياً، وهذا يعني أن هاتين القاعدتين تمنعان من توجه الأحكام الضررية والحرجية إلى المكلف وهما بمنزلة مسقطين للأحكام الشرعية ومثبتين لأبدال أخرى.

ولا شك أن هذا التقدم لو بحثنا عن أسبابه لرأينا أنه متصل بالتشريع، فالتشريع يلاحظ كل ما من شأنه الحفاظ على أمن الإنسان.


ارسل لصديق