Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
الرجعة في مدلولها العقائدي، تعني رجعة بعض الأموات إلى الدنيا قبل يوم الحساب، وهي بالتالي تحمل مضموناً استثنائياً غريباً، مخالفاً لطبيعة الواقع الإنساني، الذي اعتاد على نمط تكون فيه علاقة الإنسان بالدنيا علاقة محدودة برابط الحياة، لا يمكن لها أن تستأنف من جديد بعد الموت.
فهذه الغرابة الفكرية التي تحملها عقيدة الرجعة، تجعلها موضوعاً لجدلٍ خاص يتجاوز المألوف ويصور البعيد بصورة القريب، فتصبح بذلك استفزازاً فكرياً، يثير فضول الباحث على مستوى الفرد، وتحدياً للمعرفة الإنسانية على مستوى الأُمّة الإسلامية، التي ورثت وعياً تاريخياً لخارطة عقائدية استبعدت فيها الرجعة.
وبكلتا الجهتين، يكتسب بحث الرجعة تميزه، فالفكرة المستبعدة إذا وجدت لنفسها واقعاً ضمن تصور المعرفة الإسلامية، يكون من الضروري حينئذ إجراء مراجعة شاملة للعقلية التاريخية للأُمّة، لا لكي يتم تجاوزها، وإنما للمساهمة في صياغتها من جديد.
فمن أكبر العُقد المعرفية، التي تكون حائلاً أمام صيرورة المعرفة واستمرارها، أن يكون الأمر الغريب مستبعداً، لا لشيء إلا لكونه غريباً، والمجهول أمرُه مرفوضاً، من غير أن تكون هناك محاولات لمعرفته، فالناس في العادة «أعداء ما جهلوا»، كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، فإذا بدأت المعرفة الإنسانية من هذه الحقيقة القائلة: أن ما نعلمه هو نقطة في بحر مما نجهله، لانفتحت أمامنا أبواب العلم، وسعى الإنسان لامتلاك كل ما هو جديد، فالعقلية المتحجرة، ليس فقط لا تمضي بالإنسان قدماً، إنما تجره دائماً إلى الخلف، ومن هنا نجد أن القرآن أشار الى هذه المعضلة، كونها عاملاً لتكذيب الحقائق بقوله: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ». (سورة يونس /39).
وحتى لا يكون الواحد منا مصداقاً للذين كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه، يجب علينا دراسة عقيدة الرجعة بعقلية منفتحة، ترتكز على الدليل والبرهان، وتستبعد التعميمات القاطعة، التي تتجاهل الحقائق الواضحة.
عقيدة الرجعة من مختصات الفكر الشيعي، التي تميزوا بها عن جميع الفرق والمذاهب، مما جعلها عرضة للهجوم والاستهجان من قبل المخالفين، والمتصفح لكتب العقائد والنحل يجد سيلاً من الاستخفاف والاستهزاء بهذه العقيدة، وقد عدّ بعض علماء الجرح والتعديل، مجرد القول بالرجعة كافياً للطعن في رواية القائل، وقد ساعد الأمويون والعباسيون، الأعداء التقليديون للشيعة، على نشر هذه التهم وترويجها، مما أخرجها من إطار البحث إلى إطار التهكم، وهو أول انحراف للمسار الطبيعي لدراسة الرجعة.
فقد روي عن أبي حنيفة النعمان، أنه قال يوما لمؤمن الطاق على سبيل الاستهزاء: أقرضني دينارين وإني رادُّهما إليك بعد مماتي إذا أرجعني الله إلى دار الدنيا، فرد عليه مؤمن الطاق على سبيل التهكم و السخرية: «وما أدراني أن يرجعك الله خنزيراً أو قرداً بدلاً من إنسان».
ولمناقشة هذه الفكرة، وهي رجوع بعض الموتى للحياة الدنيا قبل الآخرة، لابد أن نناقشها على مستوى الإمكان:
* الإمكانية العقلية قبل التجربة العملية
الطبيعة المنهجية للجدل العلمي، قائمة على ما يمكن أن يكون قابلاً للتحقق؛ ولذا فإن إثبات أي حقيقة أو نفيها يقتضي أن تكون في ذاتها قابلة للتحقق، أما إذا كانت بذاتها ممتنعة، فلا يمكن حينئذ أن تكون مداراً للحوار أو الجدل، لأن إثبات شيء لشيء فرع تحققه، ومن هنا كان الإمكان العقلي لأي (فرض)، شرطاً لإمكانه العملي، ونقصد بالإمكان العقلي، أن لا يجد العقل محالاً في تحقق الفرض، (أي أن لا يحكم العقل باستحالة تحقق الفرض). فهناك بون شاسع يفصل بين الإمكان العقلي والتحقق العملي، فكثير من القضايا يمكن أن تكون ممكنة عقلاً ولكنها لم تتحقق عملياً، فمثلاً: هناك إمكان عقلي وهو أن ليس هناك محال لصعود الإنسان على كوكب المريخ، رغم عدم تحقق هذا الإمكان على المستوى العملي، أما إذا لم يكن هناك إمكان عقلي فمن المستحيل أن يتحقق على مستوى الواقع العملي.
وبناءً على ذلك لابد من اختبار عقيدة الرجعة على المستوى النظري بدايةً، قبل الحديث عن أي إمكان عملي، ولمعرفة ذلك لابد أن نطرح على العقل سؤالاً يتضمن المحتوى الداخلي لهذه العقيدة.
فهل من الممكن عقلاً أن يرجع الإنسان إلى الحياة في هذه الدنيا قبل يوم القيامة بعد أن يموت ويقبر؟
وقبل أن نجيب، لابد أن نعرف متى يحكم العقل باستحالة تحقق شيء ما؟
إن العقل لا يحكم باستحالة تحقق الشيء، إلا إذا كان في تحققه اجتماع للنقيضين، فيحكم مثلاً باستحالة اجتماع النور والظلمة، الموت والحياة، الوجود والعدم، الخير والشر.. في موضع و زمن و لحاظ و احد؛ لأنه يفضي إلى اجتماع المتناقضين وهو محال.
وبناءً على ذلك لا يرى العقل أي استحالة في رجعة الإنسان إلى دار الدنيا بعد مماته، فرجوع الميت إلى الدنيا لا يحمل أي نوع من أنواع التناقض، ولو كان عبر عشرين واسطة؛ لأنه هو نفسه العقل الذي صدّق بوجود الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً، وبخروجه حياً من قبره يوم القيامة، فلو كانت رجعته في الدنيا قبل الآخرة محالاً عقلاً، لكان رجوعه يوم القيامة محالاً أيضاً، فالعقل هنا هو نفسه هناك، لا فارق بين الأمرين.
وإذا ثبت الإمكان النظري للرجعة، لا يبقى للاستغراب محتوىً، إلا حكم العادة والأُلفة، وهو الأمر الذي لا يُعوَّل عليه عند الاستدلال والبرهنة، فقد يرفض الإنسان كثيراً من الحقائق لكونها غير مألوفة لديه، ولكن هذا الرفض لا يعني أبداً عدم وجود هذه الأشياء، فهناك فارق بين حكم العقل، الذي يرى الأشياء كما هي، وبين حكم النفس، التي ترى الحقائق من خلال البعد الشخصي والتجربة الذاتية.
* الوعد الإلهي .. الحكمة
إن الخلفية الأولى للاعتقاد بالرجعة، ترتكز على أن هناك وعداً إلهياً، يكتمل به تصور الإنسان المؤمن للغيب، فهناك حِكمة أساسية لخلق الإنسان، تنتظم حولها مجموعة من الحِكم، بدونها لا يخلق الإنسان تصوراً معرفيّاً متكاملاً لفلسفة الدين والحياة.
ومن هنا، فإن كل حقيقة موجبة للاعتقاد والإيمان، لابد أن تنسجم بل تتكامل مع ذلك التصور المعرفي، وبالتالي فإن السياق الذي نطرح فيه الرجعة، يرتكز على حِكمة مستبطنة في ذلك الاعتقاد، وإلا أصبح القول بها فضولاً في الكلام واعتباطاً في الفكر، ولنكتشف تلك الحكمة، لابد أن نسأل لماذا الرجعة؟ وما هي العلة الموجبة لها؟
وقبل أن نفصل في تلك الحكمة، لابد أن نشير إلى آيتين من جملة آيات كريمة، أثبتت الرجعة على المستوى العملي، حتى تحقق نوعاً من الأُلفة مع نفسية الإنسان المسلم.
1- قصة النبي عزير، الذي مرت على وفاته عشرات السنين، ثم عاد للحياة من جديد، لهي دليل واضح على تحقق الرجعة عملاً.
قال تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (سورة البقرة /259).
2- رجوع السبعين رجلاً من أصحاب موسى (ع):
قال تعالى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (سورة البقرة /55-56).
فلا يبقى بعد ذلك غرابة في عملية الإحياء، إن كانت هناك حكمة، وأكتفي هنا بما مضى من إشارة، لأنه ليس من مهمتي أن أستدل على هذه العقيدة، وإنما أردت فقط بيان مدى انسجامها مع الحِكمة العامة للإسلام.
أما ما يثبت حدوثها في هذه الأُمّة، فأكتفي بقوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ» (النمل /83)، والحشر في هذه الآية ليس المقصود منه حشر يوم القيامة، لأنه حشر مخصوص لبعض الطوائف من كل أُمّة، والآية هنا نص صريح في ذلك، لا تحتاج إلى إعمال جهد ونظر، فكيف يكون المقصود حشر يوم القيامة والآية صريحة في قولها: «من كل أُمّة فوجاً»، وهذا بخلاف حشر يوم القيامة الذي يقول فيه تعالى: (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (سورة الكهف /47).
أما الحِكمة من الرجعة، فتُفهم ضمن الاعتراض الذي تقدم، وهو القول: كيف تكون هناك حكومة إلهية عادلة، تمثل حِكمة الله في خلافة آدم وبعث الأنبياء، ثم تكون خاصة بمن يشهدها في عصر ظهورها؟
فكما بينّا سابقاً، أن خلافة آدم في الأرض، كانت سبباً في اعتراض الملائكة خوفاً من الفساد وسفك الدم، ولكن الله كان عالماً بأن هذا الفساد والسفك للدماء ليس دائماً، ولذلك وعد عباده الصالحين بأن يرثوا هذه الدنيا: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»، وهؤلاء الصالحون هم من ذرية آدم، فلولا خلافته لما كان هناك صالحون يرثون الأرض، وقد يكون هذا ما غفلت عنه الملائكة، وبالتالي، وراثة الصالحين للأرض كل الأرض، هي أساس الحِكمة من خلافة آدم، كما لابد أن تكون هذه الوراثة عنواناً للعدالة الإلهية، فلا يكون في وراثتهم فساد ولا سفك للدماء.
ومن الواضح أن كلمة (الأرض) هنا محلى بالألف واللام، مما يعني كونها مطلقة، الأمر الذي يدل على أن الوراثة ليست في أرض دون أرض، وإنما شاملة لكل الدنيا، وهذا الأمر لا يتحقق إلا ضمن حكومة عالمية تمثل إرادة الله، وهذا ما أكدنا عليه سابقاً بأن الرسالة الإسلامية، لابد أن يكون مآلها النهائي هي الحاكمية على كل الدنيا، ولا يتحقق ذلك إلا بقيادة الصالحين.
ومن المعلوم أنه لم يكن للصالحين وراثة في كل الأرض، منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا، مما يعني أن هذا اليوم هو يوم موعود لم يتحقق بعد، قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ) (سورة النور /55)، وهذا الوعد هو لذلك اليوم الموعود الذي يكون فيه الصالحون مستخلفين في الأرض.
فكما أن الأرض هي كل الأرض، فكذلك الصالحون، كل الصالحين موعودون بهذه الخلافة الربانية، ومن المعلوم أن الصالحين كانوا هم المستضعفين، ولم يحكم الدنيا إلا المتجبرون، ولذا وعدهم الله بالنصر بعد الاستضعاف، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (سورة القصص /5-6). وبما أن هذه الوراثة وهذا الاستخلاف للصالحين في كل الأرض لم يتحقق فيما مضى، وبما أن ذلك اليوم يوم ضروري لابد منه حتى يتحقق وعد الله، فلابد أن يأتي هذا اليوم.
فكيف يا ترى يتحقق وعد الله للصالحين، وهم قد ما توا وانقضى عمرهم؟ والله يتحدث عن صالحين بعينهم: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)؟
فقول الشيعة بالرجعة، يحقق للصالحين الذين استضعفوا في الأرض استخلافاً في هذه الدنيا قبل الآخرة، الأمر الذي يقودنا إلى القول أن عقيدة الرجعة فهم متقدم للإسلام، فإن كانت هذه العقيدة تضمن ذلك الأمر الذي فيه حكومة الصالحين، فما العيب في هذا الاعتقاد حتى يكون محلاً للسخرية والاستهزاء؟ وليس فيها ما يخالف ضرورات العقل والدين، بل العكس إذ بها يكتمل وعينا بالدين، ونتحسس قدرة الله وعظمته وعدله.
وهذه الوراثة ليست ضمن فترة محدودة، وإنما يطول عهدها إلى درجة تصبح معها خلافة الظالمين والمفسدين الذين حكموا كأنها لم تكن، حتى يقول القائل أكان في الأرض ظلم..؟!
يقول الله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ» (سورة غافر /51).
------------------
* عالم دين من السودان