A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - تنمية الفرد والمجتمع وانبعاث القيم

تنمية الفرد والمجتمع وانبعاث القيم
كتبه: علي جواد
حرر في: 2014/06/05
القراءات: 1811

هنالك علاقة مستديمة بين حركة الانسان نحو التغيير، وبين المتغيرات الحضارية لدى الشعوب والأمم. وقد جاء الاسلام ليزرع في نفس الانسان (الفرد والمجتمع)، روح التغيير والبناء والتجديد على طول الخط، مثيراً فيه المواهب الإلهية، مثل الإرادة والعقل والحكمة.

لكن أي فرد..؟ وأي مجتمع..؟

تصور البعض أن الانسان بحاجة الى عوامل وظروف موضوعية تمهد له طريق تغيير واقعه الفاسد، كأن تكون على صعيد المجتمع او الاقتصاد، بيد أن الاسلام علّم البشرية أن حامل لواء التغيير الحقيقي لن يكتب له النجاح والنصر، إلا اذا كان مسدداً من عامل القوة العظمى، وهي القوة الإلهية اللامتناهية. وابرز مثال يقدمه لنا في شخص النبي ابراهيم، عليه السلام، الذي توصل الى حقيقة الخالق بتنمية ذاتية للبصيرة والفكر وتحكيم العقل، والقرآن الكريم يروي لنا مسيرة هذا النبي العظيم نحو التوحيد الإلهي.

لذا اهتم الاسلام كثيراً بأمر التربية الفردية والاجتماعية عندما جعل «الأصالة» للإنسان لا لـ «الحتميات»، فكان التكريم في القرآن الكريم وايضاً الحثّ على العمل والاجتهاد والتفكّر بهدف التغيير نحو الأحسن، فالانسان هو الذي يقرر أن يصنع واقعه حسبما يرى، ويسعى من أجل ذلك فيصطدم بالعقبات ويسعى للتغلب عليها. هذه الحركة أو «الحراك» له مسميات عديدة في الوقت الحاضر، مثل «الثورة»، او «النهضة»، او «الانبعاث الجديد»، أما اذا خارت عزيمته، واستسلم للحتميات والظروف المحيطة به، فانه ليس فقط لن يصنع التغيير وحسب، وإنما سيصبح حجر عثرة امام أي تغيير او تطوير.

بمعنى؛ أن الانبعاث الحضاري الذي ينتشل الانسان من واقعه الفاسد، يشترط بدايةً توفر صفة الحرية والإرادة في الانسان نفسه، حتى يُصار الى نجاح العملية التربوية والتنموية، إذ لولا حرية الانسان في تحديه لواقعه الفاسد وتطلعه نحو الأفضل، لانعدمت فلسفة التربية اساساً.

 

* الفرد والمجتمع.. القائد والأمة

ان ما تعيشه الأمة في الوقت الحاضر من تحديات قاهرة على مختلف الصُعد، حيث الفشل في السياسة، والازمة في الاقتصاد والغموض في أمر المجتمع واتجاهاته الفكرية والثقافية، كل ذلك، يحتم علينا الانتهاء او حسم الخلاف في العلاقة بين القيادة والأمة، بعد ان نحدد طبيعة الانبعاث الجديد الذي سيكون على الخطين المتوازيين؛ القيادة والامة، وقبلها، الفرد والمجتمع.

ان الانبعاث الحضاري المأمول يعتمد على مسارين للتربية في الأمة: التربية الفردية، والتربية الاجتماعية.

 

* أولاً: التربية الفردية

وهي البرامج التي تصب اهتماماتها على تربية القيادات والكوادر لحركة التغيير، حيث يقول مؤرخو الثورات: «ان القيادات التي توجه الثورة، وتعطيها من روحها الوثابة وطاقاتها المتفجرة، لها دور اساس في انتصار هذه الثورة..».

ولهذا النوع من التربية عمقٌ في التاريخ والحضارة، حيث ان من جملة اهداف الرسالات السماوية كانت تربية الطليعة المؤمنة والرسالية القادرة على مواصلة المسيرة وحمل مشعل التغيير والبناء، وهؤلاء هم الذين كانوا رجال الانبعاث الجديد في الأمة، كما شهدنا في تاريخنا بعد عصر الأئمة المعصومين، حيث برز هنالك اكثر من انبعاث على صعيد العلم والمجتمع قاده علماء أبطال، أسهموا في تغيير الواقع وصنع الحدث العظيم، نذكر من الماضين الشيخ المفيد، زعيم الحوزة العلمية في بغداد، ومن المتأخرين الميرزا محمد حسن الشيرازي، زعيم الحوزة العلمية في سامراء، وقائد أول نهضة سياسية - اجتماعية بوجه الاستعمار البريطاني في ايران. طبعاً هنالك اسماء اخرى كثيرة لا مجال لذكرها.

هؤلاء خريجو مدرسة القرآن الكريم، كما كان كذلك لخيرة اصحاب النبي الأكرم والتابعين من اصحاب الأئمة المعصومين، عليهم السلام، ففي «سورة هود»، حيث يبين البارئ - عزّ وجل- أهم عامل للانتصار وهو «الاستقامة» لنبيه الأكرم، صلى الله عليه وآله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ..، فانه يبين ايضاً عناصر النمو والتربية الذاتية للطليعة الرائدة في مسيرة التغيير والانبعاث الجديد، منها محاذير وأخرى توصيات:

1- الحذر من مغبة الانحراف نحو الطغيان، {.. وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

2- الحذر من ممارسة الظلم، ﴿ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار...

3- الحذر من التوكل على غير الله تعالى، {..وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ}.

أما الوصايا فهي: المحافظة على أداء الصلوات وعدم التهاون فيها، على أنها «عمود الدين»، {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ..}، ثم بعد ذلك الإحسان، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

حصيلة هذه العوامل والمواصفات تكون في الآية اللاحقة من هذه السورة المباركة، يقول تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ..}. إذن؛ الحكمة الإلهية تقتضي وجود ﴿أُوْلُوا بَقِيَّةٍ، وهم الطليعة المؤمنة التي تقود الانبعاث الجديد وتواصل طريق الرسالة السماوية، فيحملون مشعل الإصلاح والتغيير والبناء في الحياة.

 

* ثانياً: التربية الاجتماعية

كما أن ثمة مسارات ومقاصد للتربية الفردية، فان هنالك مسارات ايضاً للتربية الاجتماعية، يلخّصها سماحة المرجع المدرسي في كتابه «البعث الاسلامي» بـ «روح المجتمع، وهي خلاصة تفاعلات التربية الفردية لكل فرد في المجتمع، مضافة الى مجموع افكارهم وأنماط سلوكهم وشخصياتهم، وانواع ردود افعالهم اتجاه الاحداث».

ان الروح الاجتماعية تعكس - بالحقيقة - المنظومة الثقافية لكل شعب وأمة، وفي بلادنا الاسلامية شعوب تتميز عن الاخرى بحالات نفسية وسيكولوجية، فهنالك شعب حاد المزاج ومنفعل لكنه عصامي، مثل بعض الشعوب العربية، وهنالك شعب منبسط وهادئ ومبدع ايضاً، مثل الشعب الايراني. كذلك الحال بالنسبة للشعب التركي وسائر الشعوب التي تحركها الروح الاجتماعية التي هي نتاج الجهود والتصورات التربوية التي يراها كل أب لتنشئة ابنائه، وباجتماع الانماط التربوية هذه، تتشكل روح اجتماعية واحدة تطبع ذلك المجتمع بسِمة تميّزه عن المجتمعات الاخرى.

لذا فان التربية الاجتماعية تُعد الارضية التي ينطلق منها الانبعاث الحضاري، فاذا كانت صالحة وخصبة، أتى الانبعاث بثماره الطيبة وترك أثراً في الواقع، أما اذا لم يكن كذلك، فانه ليس فقط لن يحصل أي انبعاث جديد، إنما يسبب تكريس الواقع الفاسد ويزيد الامور سوءاً على ما هي عليه. وهذا ما نلاحظه في بعض بلادنا التي ماتت في أرضها بذور النهضة والإصلاح والتغيير، بسبب عدم وجود عوامل حياة في منهج الأسرة. فكل شيء يدعو الى التشاؤم والحذر والتشكيك بكل شيء، ومحاولة الحفاظ على المصالح والمكاسب بأي ثمن، وعدم التحرك شبراً واحداً إلا بعد احتساب نسب الخسارة والربح.

 

* آليات التربية

ما برح المؤسسات والنخب وكل المعنيين بأمر الثقافة، يتحدثون عن ضرورة التربية الذاتية والاخرى الاجتماعية، وتشذيب الحالات والظواهرالشاذة، ثم جاءت التنمية البشرية لتضيف مساراً جديداً في عملية التحول الاجتماعي القائم على المهارات والابداعات والتنظيم. بيد ان السؤال الذي يطرحه الجميع - ونحن منهم طبعاً- عن طبيعة الآليات للحصول على ثمار التربية ثم النمو على صعيد الفرد والمجتمع؟

أشار المفكرون الاسلاميون الى آليات عديدة في أمر التربية الاجتماعية على طريق الانبعاث الحضاري الجديد. نشير الى بعضها:

 

* أولاً: الأخلاق الحسنة

انه عنوان عريض حقاً، بيد انه ضروري لإطلاق الشمولية على منظومة السلوك والعادات والخصال التي يحملها الانسان (الفرد)، فعدم وجود مساحة للأخلاق الحسنة بين افراد المجتمع، يضيع فرصة نجاح المشروع التربوي، سواء داخل الأسرة او على صعيد المجتمع، لأن التربية هنا ستكون عبارة عن نظريات وكلمات ومجاملات لا تتعدى الآذان. ومن أبرز مصاديق الاخلاق الحسنة، تضييق الفاصلة بين القول والعمل، والتي تسمى اليوم «المصداقية»، وعدم وجودها يجعل الناس يواصلون ترديد الآية القرآنية الكريمة بصوت عالٍ بوجه النخب الفكرية والثقافية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}.

في الوقت ذاته، تقع على الأب مسؤولية مباشرة في الإسهام بالعملية التربوية عندما يغرز في نفوس أبنائه صفات الشجاعة والإحسان وحب الآخرين وسرعة المبادرة والوعي بما يؤهلهم لأن يكونوا عناصر فاعلين ومفيدين في المجتمع.

 

* ثانياً: الصبر

غير قليل من علماء الاجتماع وعلماء الدين، اشاروا الى أن أمر التربية والتنشئة الاجتماعية، حالها حال النبتة الصغيرة التي يغرسها الفلاح في الارض، فهو لن يرى الثمرة الاّ بعد حين من الزمن، ربما تطول او تقصر المدة. أما من يتوقع النتائج السريعة فهو واهم، وربما يسيء الى نفسه والآخرين بسبب التوقعات في غير محلها.. أرأيتم بساتين النخيل وأشجار الزيتون والفاكهة، فهي تغرس فسيلةً في الارض، لكن لا تثمر إلا بعد عدة سنين، بينما نلاحظ زراعة الخضار وأشباهها، فانها لا تحتاج إلا الى بضعة اسابيع لحصد الفجل والكراث والباذنجان وغيرها. وعندما نعرف الفارق الكبير بين القيمة الغذائية للتمر والزيتون، وبين القيمة الغذائية للفجل والباذنجان وغيرها من الخضار، نعرف قيمة الصبر وطول الأناة. إذن؛ القضية ليست بالبساطة والسهولة التي يتصورها البعض، فهي لا تنتهي بإثارة المشاعر وتحشيد الآراء، أو توظيف العواطف الناتجة عن ظروف زمانية ومكانية معينة. لأن ببساطة نحن أمام عملية انبعاث كبير يُعنى بالقيم الدينية والاخلاقية، ليُعيد الى المجتمع والأمة صورتها الحقيقية أمام العالم. وهذا تحديداً ما يعلمنا إياه الامام زين العابدين، عليه السلام، عندما أسس أول مدرسة تربوية في تاريخ أهل البيت، عليهم السلام، من خلال شرائه العبيد والإماء بالجملة، ثم يعتقهم رأس كل سنة، وقد تحولوا ليس فقط الى أحرار، إنما الى نخب ثقافية وعلمية، وحملة مشعل الهداية والصلاح للناس. وقد بدأ مسيرته - عليه السلام، منذ تاريخ (61) للهجرة، أي في نفس السنة التي حلّت به مأساة كربلاء، واستمر على نهجه التربوي لمدة(35) عاماً، ثم جاء بعده ابنه الامام الباقر، عليه السلام. وحسب المصادر فان معظم المناصرين لزيد الشهيد - رضوان الله عليه- في ثورته، كانوا من خريجي مدرسة الامام السجاد، عليه السلام.

 

* ثالثاً: الروح الجماعية

ان الانبعاث الجديد لن يتم بفرد واحد او حتى مجموعة افراد بكامل المواصفات. إنما المجتمع الذي يجب ان تتوفر فيه الصفات الخاصة بالنهضة ليتحقق هذا الانبعاث، لاسيما اذا كان الهدف هو إحياء القيم الدينية والاخلاقية. لنتصور مجمعاً فيه مليون شخص، يعيش كل شخص حياته الخاصة ويعمل بطريقته الخاصة، فنحن ربما نحتاج الى مليون سنة لتحقيق الانبعاث المأمول. لهذا يتردد على الألسن حكاية ذلك الأب الحكيم وأولاده، مع حزمة الاعواد، التي عجزوا عن كسرها وهي مشدودة مع بعضها البعض، ثم تكسرت بكل سهولة عندما تفرقت بينهم.

ان الروح الجماعية لا تعني بالضرورة تطبيق مفهوم «الوحدة» بقراءته الخاطئة، وهي الاندماج الى حد التماهي أو تذويب الخصوصيات، إنما القراءة الفاعلة التي تنمي صفات الأخوة والتواصي والتكافل والتشاور والعطاء المتبادل..

وهذه المواصفات هي التي تبشر بامكانية تشكيل التجمعات الحضارية، مثل المؤسسات والاتحادات، بما يجعل مشروع التغيير والإصلاح جماعياً بامتياز. ثم لا ننسى أن وجود الروح الجماعية في أي شعب، مسألة نسبية وليست مطلقة، ربما تكون في مكان واحد بالمئة، وربما تكون في مكان آخر خمسين بالمئة، أو تسعين بالمئة، وبمقدار نسبة انتشار وتبني هذه الروح في المجتمع كلما تهيأت الظروف للانبعاث وإحياء القيم أكثر.

طبعاً؛ المسألة ليست بالسهلة، وإن كانت غير مستحيلة، إنما يحتاج الامر الى برامج تربوية مكثفة تبدأ مع الطفل الصغير في المدرسة وفي البيت وحتى في منطقته السكنية، بل ومنذ السنين الاولى من حياته.

فاذا اردنا انبعاثاً حقيقياً في الأمة يعيد لها هويتها وكرامتها وعزتها، لابد من برمجة وتخطيط للتربية الفردية والاجتماعية التي تزيل عن افراد المجتمع حالة العزلة والانطوائية ومشاعر الهزيمة والاحباط، واستبدالها بالحالة الايجابية المفعمة بروح الاقدام والتعاون وتفجير الطاقات وبناء الكفاءات مع مزيد من الصبر والتحدي والتطلّع الايجابي نحو المستقبل، فالعمل التربوي الناجح اليوم، مع صغر حجمه وبساطة ظاهره، إلا انه يشكل حجرة تضاف الى أحجار في البناء الحضاري لمستقبل شعب وأمة بأكملها.  


ارسل لصديق