Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
القراءات القرآنية حقيقة قائمة لابد للباحث أن يقف عندها ويناقش أهميتها العقدية ونشأتها والمراحل التاريخية لتطورها واختلاف أقوال الباحثين والمحققين بشأنها، مما يساعد في تفكيك النسيج العقائدي الذي اضطرت إليه مدرسة المخالفين لتوحيد المرجعية القرآنية بعد أن تصدع النصّ القرآني بكثرة الاختلافات وتصاعد الخلاف الاجتهادي بين القراء وعلماء الفقه واللغة، كما يمكن توظيف هذه الدراسة في الكشف عن المخطط الذي سعى من خلاله أئمة الكفر وأشياع الضلالة إلى إضعاف النص القرآني بعد مرحلة طمس السنّة بحجة «حسبنا كتاب الله».
* النشأة والتطور التاريخي
لم يكن جدل القراءات موجوداً في عهد رسول الله، صلى الله عليه وآله، رغم أن المنظرين لمشروع القراءات حاولوا - إبان تسلطهم على خلافة المسلمين - أن يختلقوا روايات توحي بشيء من ذلك، من خلال افترائهم متاهة «الأحرف السبعة»، وقد روي حديث «الأحرف السبعة» عن عمر و أبي هريرة و عمرو بن العاص وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي وكل هؤلاء من المنحرفين عن نهج أمير المؤمنين، عليه السلام، ومن المتيقن أنهم اضطلعوا بمهمة الترويج لهذه النظرية لتمرير مخطط إضعاف النصّ القرآني.
ومن أجل ترسيخ مخطط إضعاف النص القرآني فقد جهد التيار السلطوي في إبعاد أهل البيت، عليهم السلام، عن كل نشاط يتعلق بجمع القرآن وحفظه وتوحيد قراءاته، وقد اتخذ هذا الإقصاء أشكالاً متعددة منها :
1- رفض السلطة للقرآن الذي جمعه أمير المؤمنين، عليه السلام، بعيد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وآله، إذ آلى على نفسه أن لا يضع رداءً حتى يجمع القرآن الكريم ويبين ما فيه من التفسير والتأويل، وهذه الحقيقة لا تختص بها المصادر الشيعية فقد روى ما يشبهه ابن أبي شيبة الكوفي قي مصنفه (7/197) بسند صحيح.
إن عدم اعتماد الصحابة على مصحف أمير المؤمنين، عليه السلام، يدل بشكل واضح أن السلطة رفضت تسلمه وحرمت الأمة الإسلامية منه، ومما يؤكد هذا الفهم ما أورده ابن جزي الغرناطي الكلبي - ت741- في التسهيل في علوم التنزيل (1/4) إذ قال: "لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قعد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في بيته فجمعه على ترتيب نزوله ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد".
2- تم إقصاء أمير المؤمنين، عليه السلام، من مهمة جمع القرآن الأولى التي قام بها الخليفة أبو بكر بمشورة من عمر.
3- التصدير الإعلامي لبعض الأسماء كمرجعيات فكرية للقرآن الكريم لصرف أنظار الرأي العام عن أهل البيت عليهم السلام، ومن ذلك ما رواه البخاري (6/103) «عن قتادة قال : سألت أنس بن مالك، رضي الله عنه، من جمع القرآن على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد». وقد اعترف ابن حجر في فتح الباري (6/48) أن أنس إنما خص هؤلاء الأربعة بالذكر «لشدة تعلقه بهم دون غيرهم» !
وفي سياق هذه «البروباغندا» التضليلية كان عمر يقول» «أقرؤنا أبي (بن كعب)»، أما ابنه عبد الله بن عمر فكان يقول: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: «خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب». - راجع: البخاري 6/102-103-.
4- تم إقصاء أمير المؤمنين، عليه السلام، من اللجنة الرباعية التي شكلها عثمان بن عفان لتوحيد المصاحف وكانت برئاسة سعيد ابن العاص وعضوية كل من زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وذكرت بعض الروايات أسماء أخرى !! وقد أثار هذا الإقصاء «المتعمد» حفيظة الكاتب المصري «السنّي» الكبير محمود أبو رية فكتب تعليقاً رائعاً بعنوان «غريبة توجب الحيرة» في كتابه «أضواء على السنة المحمدية» ص249 إذ قال فيه : «من أغرب الأمور، ومما يدعو إلى الحيرة أنهم لم يذكروا اسم علي «رضي الله عنه» فيمن عهد إليهم بجمع القرآن وكتابته، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان ! ويذكرون غيره ممن هم أقل منه درجة في العلم والفقه «!
* مصحــف عــثمان ينسف الأحرف السبعة
اضطربت آراء القوم في معنى الأحرف السبعة حتى إن الباحث ليبقى عاجزاً عن الخروج برؤية واحدة أو مقاربة معقولة لهذه النظرية، وهذا الاختلاف الكبير «أرجعه السيوطي إلى أربعين قولاً»، وذكروا في جملة الحِكَم من تشريع الأحرف السبعة أنها «للتخفيف عن هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها»، وإذا بهذا «التخفيف» و«اليسر» و«التهوين» ينقلب - في زمن عثمان - إلى تناحر وتهديد للأمة بالسقوط في الفتنة كما سقط اليهود والنصارى! ولهذا فقد جمع عثمان الناس على مصحف واحد، ولا أقول على حرف واحد لأن المدرسة السنية إلى هذا اليوم مختلفة في ما بينها، هل أن مصحف عثمان حرف من الأحرف السبعة؟ أم إنه استوعب هذه الأحرف السبعة؟ يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (13/389) وما بعدها: «الذي عليه جمهور العلماء من السلف والأئمة.. أن مصحف عثمان هو أحد الأحرف السبعة»، إلا أن د.محمد حبش يختلف معه في كتابه «القراءات المتواترة» إذ يقول: «رأى جمهور المفسرين أن الأحرف السبعة باقية في التنزيل وقد استوعبتها المصاحف العثمانية، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما أذن به النبي، صلى الله عليه وسلم»، وبذلك فقد ضاعت الأحرف السبعة بين «جمهور العلماء» و»جمهور المفسرين» وبين حبش وابن تيمية !!
ومما يلفت أن أصحاب نظرية تواتر القراءات الذين ادعوا أنها «توقيفية» و «متلقاة من رسول الله»، قد اغفلوا آراء كبار علماء اللغة والنحو في مجموعة من القراءات بما لا يدع مجالاً للشك أنهم أسقطوها من الاعتبار، ونحن نذكر هنا مثالاً واحداً للاستدلال، وإلا فالأمثلة تفوق العد والحصر، فمما أنكره النحاة قراءة حمزة لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} (سورة النساء /4)، حيث قرأها بالخفض عطفاً على الضمير، يقول الرازي في تفسيره (9/136): «أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة.. وفي تفسير (القرطبي 5/2) : وقد تكلم النحويون في ذلك. فأما البصريون فقال رؤساؤهم : هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه».
إن المشكلة الثانية في مصحف عثمان، هو التفسير التقني لكيفية ضبطه بالسور والآيات والكلمات، فقد اعتمد على قراءة زيد بن ثابت وهو الأنصاري، ومن شخصيات السلطة وممن وقفوا في الخط المقابل لخط أهل البيت عليهم السلام، وإذا أضفنا إلى ذلك اعتراف ابن تيمية أن الصحابة لم يكونوا معصومين في حفظ القرآن وضبطه ينتج أن من المحتمل جداً حصول أخطاء في عملية ضبط القرآن الكريم الذي قام بها عثمان بن عفان.
لا نعرف اليوم على وجه الدقة «المصحف المرجع» الذي اعتمدته لجنة عثمان في نسخ مصحف عثمان أو ما عرف «بالمصحف الإمام»، فبعض الروايات تشير إلى مصحف حفصة الذي كان عند أبي بكر وانتقل إلى عمر ثم لحفصة، وهو احتمال ساقط ؛ فهل أتعب أبو بكر الدولة بعملية جمع القرآن لتكون النتيجة إخفاءه عند حفصة ؟! ثم إن جملة من القراءات التي وردت عن عمر غير موجودة في مصحف عثمان، وفي روايات أخرى أن عثمان أخذ المصحف من عائشة وهو - مع معارضته لما سبق - ساقط بالاعتبارات نفسها، ولأن لعائشة قراءات وزيادات غير موجودة في مصحف عثمان، وهناك رأي آخر تبناه الشيخ علي الكوراني ويرى بعض الباحثين أن عثمان إنما نسخ مصحفه على مصحف علي أمير المؤمنين عليه السلام مستدلاً بما ورد في رسالة عثمان إلى الأمصار من أنه عرض مصحفه على «الأدم الذي فيه القرآن الذي كتب عن فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا القرآن غض». (تاريخ المدينة 3/997)، ويكفي في رد هذا الرأي اعتراض عبد الله بن مسعود على مصحف عثمان وطعنه في زيد بن ثابت المشرف على عملية النسخ، كما إن بعض القراءات التي روتها العامة والخاصة عن أمير المؤمنين عليه السلام وأهل البيت تخالف ما هو مثبت في مصحف عثمان، منها ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ (سورة الواقعة /29)، إذ قرأها أهل البيت، عليهم السلام، ﴿وطلع منضود﴾، ففي تفسير القمي (2/348): «..وقرأ أبو عبد الله، عليه السلام، ﴿وطلع منضود﴾، وأما ما روته العامة فقد ذكر ابن عبد البر في (التمهيد 8/297): «وأما، {وطلع منضود} فقرأ به علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب من وجوه صحاح متواترة».
ومما لا شك فيه تاريخياً أن علياً، عليه السلام، ومجموعة من شيعته كحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب كانوا حاضرين في عملية جمع القرآن، ولا نشك فيه أيضاً أن ثمة تنسيقاً جرى بين أمير المؤمنين، عليه السلام، وحذيفة - المحرك الأساس لعملية توحيد المصاحف-، كما إنه من المتيقن أيضاً أن اللجنة العثمانية لم تأخذ بكل التوصيات والملاحظات التي حاول علي، عليه السلام، وشيعته فرضها على المصحف الإمام فكانت النتيجة، الاتفاق على مصحف خالٍ من الزيادات «غير القرآنية» التي تناقض الأصول العقائدية للإسلام، إلا أن التفاصيل كانت محط خلاف واستطاعت السلطة أن تفرض بعض القراءات المخالفة التي لم تكن لتتناقض مع أصول العقيدة.
وأغلب الظن أن الصحابي «الشيعي» أبي بن كعب لعب دوراً مهماً في فرض القراءة الصحيحة على لجنة جمع القرآن، إذ تشير بعض الآثار أنهم استعانوا به في عملية نسخ المصاحف (فتح الباري 9/17)، وقد أشارت بعض المصادر أنهم استعانوا بمصحف أُبي في عملية جمع القرآن (المصاحف لأبي داود ص33)، وإذا أضفنا إلى هذه القرائن أن المعلى بن خنيس روى عن الصادق، عليه السلام، قوله: «أما نحن فنقرأ على قراءة أبي»، (الكافي 2/634) نستطيع أن نحتمل أن مصحف أبي ابن كعب كان حاضراً في عملية جمع وتوحيد المصاحف مما أضفى «البصمات الشيعية» على مصحف عثمان.
* أهــــل البيـــت، عليهم السلام، والقراءات
مما لا شك فيه أن أهل البيت عليهم السلام رفضوا نظرية «الأحرف السبعة» وصرحوا لشيعتهم بنظرية القراءة الواحدة. روى الشيخ الكليني في (الكافي 2/630)، بإسناد جليل عن الفضيل بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله، عليه السلام: إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: «كذبوا أعداء الله، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد»، وفي رواية: «ولكن الاختلاف يجيء من قبل الرواة».
وقد شاع عند بعض الكتاب والمحققين أن قراءة حفص عن عاصم، المتداولة اليوم في كثير من البلدان هي القراءة المعتمدة عند أهل البيت، عليهم السلام، بدعوى أن عاصماً أخذ القراءة من أبي عبد الرحمن السلمي الذي أخذها من أمير المؤمنين، عليه السلام، وربما زاد البعض أن حفصاً وعاصماً والسلمي كانوا من الشيعة، ونحن نختلف مع هذه النظرية في بعض التفاصيل وكما يأتي فإن عاصماً قرأ أيضاً على زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، (سير أعلام النبلاء 5/256)، كما إن أبا عبد الرحمن السلمي لم يقرأ فقط على علي، عليه السلام، فقد أخذ القرآن عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب، وأخذ زر عن عثمان بن عفان.
إن دعوى تشيع الثلاثة: (حفص) و (عاصم) و (السلمي) لا دليل عليها، ولو كان فيهم علائم التشيع لاشتهر وبان مع اشتهار قراءتهم، ويؤيد ذلك، ما ذكره ابن طاووس في كتابه (سعد السعود ص145)، وهو يرد على أبي يعلى الجبائي: «..وهؤلاء السبعة - أي القراء- منكم وليسوا من رجال من ذكرت أنهم رافضة»، بل أكثر من ذلك فإن المؤرخ الثقة محمد بن إبراهيم الثقفي في كتاب (الغارات 2/559) ذكر أبا عبد الرحمن السلمي ممن «خذلوا علياً وخرجوا على طاعته».
ومما يلاحظ أن في قراءة أهل البيت، عليهم السلام ما هو مخالف لقراءة حفص عن عاصم، و أوضح مثال عليه آية الوضوء، فقد روي عن غالب بن الهذيل قال:
سألت أبا جعفر، عليه السلام، عن قول الله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}، على الخفض هي أم على النصب؟ قال: «بل هي على الخفض»، وهي في قراء حفص بالنصب.
لقد تدخلت السياسة في انتشار قراءة حفص عن عاصم، إذ انتقل حفص بن سلمان الكوفي الأسدي (ت180هـ) من الكوفة إلى بغداد، وصار له شأن في مجالس القراءة والحديث، وأخذ عنه الرواة والقراء، واشتهرت قراءته وكتب المصاحف الرسمية وفقها، على أنها لم تكن القراءة الوحيدة ولم تكن لها السيادة على بقية القراءات، حتى جاء زمان العثمانيين وهم من الأحناف، فذاع صيتها وصارت هي القراءة الرسمية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف، وقد انتهجت الدولة العثمانية سياسة تعميم هذه القراءة التي تعد القراءة المفضلة عند الأحناف ؛ ربما لأن أبا حنيفة «كوفي أخذ عن عاصم». وإذا أضفنا إلى هذا السبب ما تمتعت به هذه القراءة من قوة ذاتية كمتانة إسنادها وفصاحتها وسهولتها مما هو مفصل في كتب التجويد والقراءات.