Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
ان المتأمل في ثورة الامام الحسين، عليه السلام، وما أحاطها من ظروف وملابسات، يؤشر على قضية جوهرية وحساسة في النظام الاجتماعي والسياسي في الأمة، ألا وهي القيادة وطاعتها ومشروعيتها، فهل هما للسلطة، و إن كانت طاغوتية؟ أم أنهما للمال؟ أم أنهما للعلم؟ وهل التقوى شرط في القيادة وطاعتها؟!
لايخفى على من يلقي نظرة ولو بسيطة، أن هناك من جاء لقتل الامام الحسين، عليه السلام، متعذراً بانه يؤدي فروض الطاعة الشرعية لولي أمره، يزيد - لعنه الله- وهذا العذر ما نزال نشهد له وجوداً في اعتقاد البعض الى هذا اليوم، متمثلاً بالوهابية و امثالهم.
وهناك فريق من جيش ابن سعد، إنما أطاع الحاكم، طمعاً بالمال، وفيهم من جاء تحت ذريعة طاعة العلم والعلماء، حينما أجاز عالم السلطة، شريح القاضي، بقتل سيد شباب اهل الجنة، والحاكم المنصّب من السماء.
إننا نجد في المجتمعات الجاهلية أن الحق للقوة، وليست القوة للحق، وأن العلم تابع وليس متبوعاً، وأن العلماء على أبواب الملوك، وليس الملوك على ابواب العلماء، وبالتالي نجد أن قوى السياسة والمال والمخابرات، هي التي تقود العالم، وهي التي تخطط لكل شيء، حتى للثقافة وللعلم، فأصبح العلم في الوقت الحاضر (الجاهلية الحديثة)، تابعاً للقوة في اشكاله المتعددة، بينما يرى الإسلام ان الخضوع للقوة، أنّى كانت، إنما هو خضوع للطاغوت وهو شرك، رغم أن الشرك في نظر البعض من الناس، هو السجود للصنم فقط، وهذا جزءٌ بسيط من مفهوم الشرك، أما الشرك في الإسلام فهو أن تشرك مع الله غيره في العبادة، وأن تطيع الله وتطيع غير الله. أن تكون لك قيادتان؛ قيادة سماوية وقيادة أرضية. إن الشرك يعيش بين ظهرانينا! وفي أمتنا الإسلامية - للأسف الشديد-.
تعتمد الحياة على قاعدتين أساسيتين: العلم والعمل. والعمل حينما يتكثف، يتحول إلى رصيد متراكم يسمى مالاً. فالمال في الواقع ليس إلا عملاً مركزاً ومتراكماً. أما العلم فهو جانب الرؤية إلى الحياة، ومعرفة النظم الحاكمة فيها، وطريقة تسخير الأرض وما فيها، ومعرفة النظام الكوني الذي نعيش فيه. إذن؛ فحياة البشر في هذه الدنيا تعتمد على عنصري: العلم والمال. وحينما نقيس العلم والمال، فلا ريب أن العلم يسمو على المال، ذلك لأنه لولا معرفة الإنسان بالحياة، لما كان هناك فرق بين البشر وبين سائر الأحياء، بل لم يكن هناك فرق بين الإنسان وبين الطبيعة، والإنسان إنما سخّر الطبيعة بعلمه، لذلك نجد في الآيات القرآنية تذكرة بهذه الحقيقة، حيث يقول تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلآَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِاسْمَآءِ هَؤُلآءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَآ انَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قَالَ يَآ ءَادَمُ أَنْبِئْهُم بِاسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِاسْمآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَاتُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ* وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُوْا لَادَمَ فَسَجَدُوا إِلآَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (سورة البقرة، 31- 34).
إنّ الإنسان إذا سُلب علمه أصبح ليس فقط كسائر الحيوانات، بل وأقل قيمة وأضل سبيلًا، والسبب إنّ الحيوانات التي لم تزوّد بالعلم، قد زُوِّدت بالغريزة، وبالقدرة على التكيف مع ظروف البيئة وقوانين الحياة، بينما الإنسان لم يزود على نفس المستوى بهذه الأشياء، وإنما زُوِّد بأفضل من ذلك وهو العقل، الذي يتعلم به الطريق إلى الإنتصار على الطبيعة.
إذن؛ فعند المقارنة بين العلم والمال، نجد أن المال أقل قيمة من العلم. ولو قارنّا أيضا العمل بالعلم، لتوصلنا إلى أن العمل لا قيمة له إلّا اذا اهتدى بضوء العلم. لذلك تجد الامام علي بن أبي طالب، عليه السلام، في حديثه المعروف لكميل بن زياد، يبين لنا أفضلية العلم على المال فيقول: «...يا كميل، هلك خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدّهر».
ومن هنا نعرف مدى مأساة الإنسان في الجاهلية الحديثة، حيث ان جوهر الإنسانية، وهو العلم والمعرفة، اصبح تابعاً لشهوات ومصالح المستكبرين المتسلطين. أما الإسلام فإنه يرفض هذه التبعية، ويؤكد على فصل القوة والمال عن التوجيه والقيادة. والسؤال: كيف يستطيع الإسلام تكريس هذه الحقيقة؟
إن النُظُم الاجتماعية لها جذور نفسية، فإذا لم تكن متجذرة في النفوس ومتفاعلة مع عقائد المجتمع فإنها ستنهار. فحينما تجد البلاد في العصر الراهن تخضع للقوة، وتخضع لسلطة أصحاب المال، فذلك لأن الجاهلية مترسخة في نفوس الناس. أما إذا نزعوا الجاهلية من أنفسهم فإن القوة لا تستطيع أن تخضعهم. إن العالم يعرف بأن العلم يجب أن يقود الإنسان، ويعلم بان المخ هو مركز القيادة في الجسم، وليس اليد أو الرجل، ولكن لا يستطيع تطبيق هذه الحقيقة في مجال الحياة والمجتمع، لانه لا يقدر على ذلك، ما دامت جذور الجاهلية مترسخة في النفوس. أما الإسلام فانه يقتلع هذه الجذور، ثم يعطي الإنسان حرية إختيار قيادته الصحيحة. فهو يقول للإنسان أنت المسؤول عن المحافظة على حريتك، والحياة تبدأ منك لا من الآخرين: «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً». فالحرية ملك لك، فلماذا تستهين بها وتدعها تُسرق منك من قبل الحكام الظلمة والطغاة...؟!
وحينما يحدثنا القرآن الحكيم عن المستضعفين الذين لا يهاجرون من بلادهم، ولا يعملون من أجل رفع الاستضعاف عن أنفسهم، يصفهم بالظالمين: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَاوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً}. (سورة النساء، 97).
ولكن هل يستطيع العلم وحده أن يقود المجتمع ويدير شؤونه؟ وهل تنجح دولة تقام على أسس علمانية مجردة وبعيدة عن القيم؟ الإسلام يقول: كلا. فالعلم بدون التقوى لا ينفع شيئاً بل سيكون ضرره أكبر من نفعه. إن العلم طاقة كبرى، كما أن المال طاقة كبرى أيضاً، وإذا وجّه العلم أو المال باتجاه الشر، فسوف يكون ضررهما كبيرا بقدر خطورة وعظمة هاتين الطاقتين. إن العلم والمال إذا أسيء إستعمالهما سيكونان سبباً لتدمير العالم كما في إنتاج الأسلحة النووية.
ان العلم حينما لا يحدد بالتقوى، فإنه يصبح أداة بيد شخص مثل «بلعم ابن باعوراء» الذي استعمل علمه لتدمير حياة المجتمع، عن طريق دعمه لسلطة الطاغوت (فرعون). وبيد شخص مثل «شريح القاضي» الذي أفتى بقتل الحسين ابن علي، عليهما السلام، في جريمة نكراء لم ولن يشهد لها التاريخ مثيلًا. وكما قال الشاعر:
لو كان في العلم من دون التقى شرف
لكان أشرف خلق الله إبليس
وهكذا المجتمع الفاضل، لا تقوده القوة الكامنة فيه، ولا يقوده إقتصاده، ولا يعطي الحق لجماعة أو فئة تقول باننا نحن الأقوى... نحن نملك المال والسلاح والانصار المسلحين... إنما يقول لمراكز القوى في الساحة: إن قوتكم لا تنفع شيئاً ما لم يوجهها البصر والبصيرة. فالقوة بغير البصيرة طاقة عمياء، والعمى يؤدي إلى الهلاك، فلابد من العلم لتوجيه القوة، ولكن العلم وحده لا يكفي أيضاً، فالمجتمع الفاضل لا يعطي كامل قيادته للعلم. فالعلم يجب أن يؤطر بالتقوى، لأن التقوى هي اتباع برامج السماء ومناهج الله، وبذلك يرتبط مصير الإنسان وشؤونه، بالخالق الذي هو أعرف وأعلم بالحياة وما يصلحها، فهو الذي خلق الإنسان وقدَّر معايشه ودبّر اموره.
من هنا؛ فان الطاعة في الإسلام خاصة بالله سبحانه وتعالى، إذ لا يجوز أن يطيع المسلم أحداً من دون الله أنّى كان، فهذا يعد شركاً بالله، قال سبحانه: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ}. (المؤمنون،34). ولكن هناك فرقاً بين الطاعة الذاتية والطاعة الإمتدادية، فالطاعة الذاتية إنما هي لله وحده لا شريك له. أما الطاعة الامتدادية التي تكون لله، ولكن عبر عبد من عباده، قد أمر باتباعه وطاعته، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. (سورة النساء، 64). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}. (سورة النساء، 59). فطاعتنا للرسول والامام ومن ينوب عنه، إنما هي امتثالاً لأمر الله تعالى، ولولا هذا الامر؛ لكانت تلك الطاعة نوعاً من الشرك.
ان للحضارات البشرية تجليات بعد إنطواءات، فهي تسير بين قطبي التلاشي والظهور، فتختفي لفترة، ثم تنبعث من جديد في فترة أخرى. وتسمّى الفترة بين ظهور وظهور بفترة السبات. وفي فترة السبات، تبقى مجموعة من الناس خازنة للحضارة تحتفظ بقيمها وأساليبها وارتباطاتها وعلاقاتها، حتى تأتي مرحلة مؤاتية لانبثاق هذه الحضارة من جديد. فمثلًا ما يسمى بالحضارة الغربية، هو إمتداد للحضارة الهيلينية، حيث ظلت لفترة من الوقت في سبات عميق، ثم بعد فترة واذا بها تبدأ من جديد وتنطلق. وخلال هذه الفترة التي دامت قرونا (من عام 370 م إلى عام 1650 م) حافظت الكنيسة على هذه الحضارة وقيمها.
ونحن (في العالم الإسلامي)، نعيش اليوم نهاية فترة سبات طويلة بدأت منذ القرن السابع الهجري، حين انطوت الامة على نفسها، وانتهت بانبعاث الروح النهضوية الجديدة في العالم الإسلامي، في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. دعونا نتساءل: خلال هذه الفترة من الذي حافظ على الإسلام؟
ان الذي حافظ على المكتسبات الحضارية للامة الإسلامية، هي الحوزات العلمية وتلك الصفوة من المؤمنين الذين صانوا العلم والهدى، وحافظوا على العلاقات الايمانية بينهم، واحتفظوا بمكاسب الحضارة.
وحين نشهد الإنبعاث الإسلامي اليوم، فان الفضل لا يعود الى الجامعات، ولا لأروقة السياسة، ولا للمجالس البرلمانية، ولا لغرف القيادات العسكرية، ولا لدور النشر التي همّها ترجمة الكتب المؤلفة في الشرق والغرب. إنما الفضل في هذه الانبعاثة الجديدة، يعود الى العلماء والقادة الرساليين الذين قضوا سنوات حياتهم في الأوساط العلمية الدينية، متأثرين بذات الاساليب والقيم الإسلامية التي طبّقها النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا الإنبعاث يجب أن ينطلق من الحوزات الدينية، لأن الثقافات والافكار الغربية والشرقية التي حاكتها وقلدتها جامعاتنا وساستنا وعسكريونا ونوّابنا في البرلمانات وطبقاتنا المرفهّة، لم تكن قادرة على تفجير النهضة الإسلامية، بل كانت بضاعة جاهلية ردت إلى أصحابها. وهذا هو تفسير ما يقوله كبار المفكرين الغربيين معترفين بأنه لا خلاص للأمة الإسلامية إلا على يد علماء الدين. يقول المفكر الغربي «هاملتون جب»، الذي يسميه الكتّاب الغربيون بالعلّامة: «لا يمكن للامة الإسلامية أن تصل إلى مستوى من الحضارة إلّا على يد علماء الدين».
وهذا يفسر سر التعظيم والمنزلة الرفيعة التي يعطيها الإسلام، وشخص الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، لعلماء الدين الربانيين، ذلك ليوجه الناس الى ضرورة اتباعهم والاقتداء بهم وطاعتهم. فقد دلّت النصوص على ان العلماء ورثة الانبياء وخلفاء الرسول وانهم كأنبياء بني اسرائيل، فعن النبي الاكرم، صلى الله عليه وآله: «العلماء مصابيح الأرض، وخلفاء الأنبياء، وورثتي، وورثة الأنبياء». وعنه ايضاً: «اللهم ارحم خلفائي، فقيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون عني أحاديثي وسنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي». وعنه، صلى الله عليه وآله: «ياعلي! نوم العالم أفضل من عبادة العابد. يا علي! ركعتان يصليهما العالم أفضل من سبعين ركعة يصليها العابد». و»وإن شفاعتهم مقبولة يوم القيامة».