Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
تعيش الأمة في العصر الراهن تحدياً حضارياً شاملاً. فعلى الرغم من أن التحدي الحضاري ظاهرة لازمة في الأمة، وأنه لم يجد المسلمون عبر التاريخ فترة استراحة، غير أن التحدي الحضاري الجديد اتخذ طابعاً مختلفاً عندما تحول إلى مواجهة حضارية شاملة للجوانب الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية، تستهدف اكتساح كل ما يتعلق بالمظاهر الاسلامية، حتى لا لا يفكر أحد بنهوض الحضارة الاسلامية أبداً.
ولا يخفى أن هذه المواجهة تتجسد في مظاهر عديدة، بيد أن نقطة واحدة تقرر مصيرها النهائي لصالح الأمة أو لصالح أعدائها؛ تلك هي: "جدارة الفكرة الحضارية بالبقاء"، فبقدر ما تكون الفكرة مفعمة بركائز التحدي والتقدم والنصر، وبقدر ما تبعثه في الإنسان المنتمي لها من الإيمان والمعرفة، سيكون تقدم الأمة وانتصارها.
ولن تغني الفكرة الحضارية شيئاً لو لم تملك الأصالة والواقعية، أو كانت عاجزةً عن تمثيل نفسها على ارض الواقع، حتى تصنع أفذاذاً، وتصنع بهم حضارة متفوقة، إذ بدون التفاعل بين الإنسان والفكرة، لن يتسنى للإنسان تغيير واقع الحياة وهيكليتها؟ فهل تتقدم أمة تملك خزيناً ضخماً من الفكرة الحضارية قبل أن تتحول إلى عطاء وعمل؟
من هنا؛ يمكن القول إن الإسلام لن يفيد الأمة شيئاً مادام مجرد فكرٍ تاريخي يقبع في أذهان المسلمين، ولم يتحول إلى وهج حضاري يتفاعل مع الإنسان في الواقع الخارجي. وهذا لن يتحقق ما لم يظهر الإسلام على مسرح الحياة؛ ليؤدي دوره بكل قوة بوصفه فكرة حضارية خلاّقة.
إن الإسلام كدين، والإسلام كتأريخ، يختلف كثيراً عن الإسلام كإيمان وعمل، ومن ثم، كفكرة حضارية. إذن؛ الدين بمفهومه الشائع، هو عقيدة وانتماء، والتاريخ تتمثل فيه العبر والحِكم، أما الإيمان؛ فهو أصالة وكينونة، فيما الحضارة حركة وحياة، وبين هذه الحقائق فاصل شاسع.
فالمسلمون كوّنوا أمة، وكوّنوا حضارةً. ولنا أن نتساءل في هذا الإطار عما إذا بقي المسلمون أمةً؟ وهل هم اليوم خير أمةٍ أخرجت للناس؟ وهل أنهم يمتلكون القدرة على بناء حضارة؟ بل هل هم اليوم حماة حضارة؟! ببالغ الأسف نعلن أنهم لم يعودوا أمةً، لأنهم يفتقرون إلى أوليات الأمة، وهي الوحدة والتعاون، ولم يبقوا خير أمة، لأنهم لا يملكون كفايتهم من الإيمان والعلم، ولم يعودوا يبنون أو يحمون حضارة، لأنهم - وبكل أسف مرة أخرى- يعانون نكبات ثقافية وسياسية وعسكرية، وتخلفاً اجتماعياً وعلمياً واقتصادياً، ومن ثم، فإن إسلام الأمس لا يغني عن إسلام المسلمين اليوم.
الإجابة بسيطة جداً، وتتمثل في لزوم طي الحقبة الماضية، و ردم الهوة التي تفصل اليوم عن أمس، ليتصل يومنا بيوم تقدمنا. وننطلق منه نحو النجاح.
وكل ذلك، لأننا بحاجة إلى واقعين: قاعدة بناءٍ، ومنطلق مسيرةٍ، وهما في الواقع أصالة وتفتّح، وعدم توفرهما معاً يعني الخسارة الأكيدة و المحتومة للمعركة الحضارية.
وليس من شك أن الاستلهام من الدين الصحيح يشكل القاعدة و المنطلق والأصالة، بينما التفتّح على الواقع والحياة يشكل التفاعل والمسير، فنحن- إذاً- بأمس الحاجة إلى "تأصّل" و"تفتّح"، ولابد من السعي إلى تحقيقهما عبر مراحل ثلاث:
أولاً: مرحلة التأصّل، وتعني محاولة استيعاب الفكرة الحضارية التي تتمثل في الدين الإسلامي إيماناً وعلماً.
ثانياً: مرحلة النهضة، وتعني استشعار التخلف، والاستيقاظ من السبات التاريخي العميق، والرغبة في الحياة مرة أخرى.
ثالثاً: مرحلة التفتح، وتعني السعي الحثيث نحو الاستفادة من معطيات العلم الحديث.
إن هذا هو الخط الواضح والقويم، الذي لا يمكننا أن ننجح دون الالتزام به والوفاء بمتطلباته ومقتضياته، إلا أنه يبدو أن هناك عقبة كأداء تعترض طريقنا للنجاح، وبمدى قدرتنا على تحديها، يكون تحقيق النجاح والتقدم، وهو حالة التنافس المحموم بين اتجاهين في الفكر والسلوك احدهما: المحافظ والآخر المتطرف، فالاتجاه الاول الذي يُعرف احياناً بـ "اليمين" فانه يحاول تجميدنا على الأوضاع الفاسدة، أما الثاني المعروف بـ "اليسار" فانه يهدف إلى تمييعنا في بوتقة الانحرافات المستجدة، بدعوى التغيير والانفتاح مع الجميع. فاليمين يدعي الأصالة ويرفض الانفتاح، واليسار ينعق بالانفتاح ويصور الأصالة تخلفاً و رجعيةً.