يشكل غياب الدولة حالة من القلق ينعكس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي، ويربك الواقع السياسي الذي يظل في حالة من التجاذبات والمناكفات التي تأخذ - أحياناً - طابع الديمومة والاستمرار حتى تكاد تبدو وكأنها قدر لازم أو حتمية لا بد منها.
ولا فرق بين غياب الدولة أو وجود دولة ضعيفة أو فاشلة، حيث إنها تشكل العامل الرئيس للكثير من المشاكل اليومية للجماهير التي تتوقع حل مشاكلها وأزماتها، ولكن انتظارهم يطول من دون جدوى أو حلول حقيقية، وهذا ما يدفع الناس للتذمر والسخط وربما يصل الأمر بالكثير منهم، إلى حالة من الإحباط تصل إلى حد أنهم لا يثقون بالسلطة و الدولة.
من هنا تبرز أهمية بناء الدولة القادرة على بناء الثقة عند الناس من خلال حضورها القوي وذلك بالعمل على معالجة قضاياهم ووضع الحلول لأزماتهم وتحقيق أمانيهم وتطلعاتهم من خلال الانجاز والتحقيق على أرض الواقع من دون الحاجة للاختفاء وراء الشعارات أو الوعود البراقة، فتتعزز الثقة إلى درجة كبيرة من الانسجام الذي يولد الإبداع على كل صعيد فيرى الناس في الدولة حاضناً ورافداً وحافزاً، وهذا يدعونا للبحث في مناخات التغيير الحقيقية التي تحمل معها الأمل الذي ينتظره الناس وهذا يقودنا إلى مجموعة من القضايا المهمة التي ينبغي الالتفات إليها:
أولاً: إن العامل الأساس في بناء أي مشروع هو نوعية الثقافة التي يتأسس عليها ذلك المشروع وعليه فإن بناء الدولة بحاجة إلى ثقافة حية تنطلق من منظومة القيم السامية، حيث كرامة الإنسان وحقه الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة من دون تمييز أو تفاضل إلا من خلال العمل والعطاء والكفاءة وليس من خلال عصبيات أو أهواء تجعل الناس بعيدين عن بعضهم البعض، وتصنع الحواجز المادية والمعنوية بينهم، فتتشكل جدران عازلة لا يخترقها النظر أو السمع، وتتحول فيها الدولة إلى حالة أشبه ‹›بالمافيات›› التي تتصارع على مواقع النفوذ والسلطة والمال ويضيع فيها المواطن البسيط.
ثانياً: إن الدولة تتشكل من مجموعة من القوانين والضوابط والتشريعات والمؤسسات التي تنظم حياة الناس ومعاملاتهم وتعالج قضاياهم و تستوعب الجميع، فلا يمكن بناء نظام سياسي ودولة قادرة وقوية وعادلة في ظل تمييز أو فوارق طبقية فاحشة، فتتقسم المؤسسات والإطارات والكيانات إلى ملكيات خاصة، وتقوم الواسطة والقرابة والنسب والمحسوبيات محل الكفاءة والعلم والمعرفة، ويتحول الولاء من القيم، إلى المسميات والأشخاص، وتتحول القوانين إلى آلة عمياء تطبق في مكان بينما لا يوجد لها أي قيمة في مواقع أخرى، وتتحول المعايير بقدرة قادر من النظام والحق إلى حالة الفوضى والتخبط.
ثالثاً: إن بناء الدولة يقوم على التقريب بين الناس والعمل على زيادة مساحة التواصل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بينهم، حيث إن الدولة القادرة هي التي تعمل جاهدة على إسعاد الناس وتحقيق طموحاتهم من خلال عيش مستقر وتواصل قائم على المحبة والاحترام من خلال اعتماد معايير صالحة ومقومات متينة في بناء الدولة تؤدي إلى التنمية والبناء فلا تتقسم البلاد والعباد بشكل يؤدي إلى خلق مساحات شاسعة بين أناس يعيشون على مسافات متقاربة جغرافياً وحسابياً ومادياً ولكنها بعيدة كل البعد على الصعيد المعنوي والنفسي.
رابعاً: إن الدولة مهما بلغ حجمها ومكانتها فهي أقل وزناً وقيمة من أي إنسان في المجتمع، بل إن قيمتها تكمن في نظام اجتماعي وسياسي تعاقد عليه الناس لخدمتهم وتحقيق مصالحهم جميعاً بلا استثناء، ولذلك فإنه ليس من المنطق ولا من العقل أن تتحول الدولة كمفهوم وهرم او هيكل مجرد، إلى أمر مقدس قبال الناس و الإنسان الذي كرمه ربنا - عزّ وجل- حيث يقول:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...﴾،(سورة الإسراء/ 70) لذا فمن البديهي أن تكون الدولة، كنظام سياسي واجتماعي في خدمة الناس ونظم أمرهم وتحقيق التقدم والنمو والرفاهية والعدل في المجتمع على كافة الصعد، وإلا فقدت أساس وجودها وفلسفة بنائها، وهذا ما يدعو إلى التفكير الدائم في تطوير الدول أنظمة وقوانين وتشريعات سياسية واقتصادية بما يخدم مصالح البلاد والعباد.
هذه الأمور هي مجرد استثارات عقلية نحن بحاجة إليها، إضافة الى ما يطرح من قبل الآخرين على الصعيد النظري والعملي لكي نرتقي بواقعنا الصعب والمتخلف في زمن معقد، علينا اللحاق به حتى نكون ضمن دائرة الحضور على الأقل.
والله من وراء القصد.