Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
الإيثار هو درجة من درجات الكرم، ومعنىً من معاني الشرف والمروءة، انه فضيلة عالية لا يحوزها إلا كلّ ذي هِمّة عالية وإرادة مستديمة، لأنّ المُؤْثر، إنما يتخلّى في لحظة إيثاره عن شيءٍ غالٍ لديه، مالاً كان أو نفساً أو مقاماً أو أيِّ شيءٍ آخر، بهدف تحصيل مكرمة ما، أو دفع سوءٍ عن فردٍ أو أمَّةٍ بكاملها. لذلك فإنّ هذا العمل ينطوي على جملة من المعاني والصِّفات الحسنة، وأحيانا يطال الإيثار، حتى النفس وليس المال وحده، وخير دليل قصة الإمام علي، عليه السلام، عندما نام في فراش رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ليلة الهجرة ليقيه بنفسه من عتاة قريش، عندما تآمروا لاغتياله، فأوحى الله تعالى الى جبرائيل وميكائيل، عليهما السلام، أني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر أخاه فآثر كلاهما البقاء على الآخر، وهنا جاء الرد الالهي: «أفلا كنتما مثل علي بن ابي طالب، إني آخيت بينه وبين نبيي محمد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا الى الارض فاحفظاه من عدوه، فكان جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي: بخ بخ من مثلك يا ابن ابي طالب يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}،(سورة البقرة/207).
هنا تبين لنا القصة مفهوم الإيثار، وكيف انه يكشف باطن الإنسان، ويعرِّفُه حقيقةَ نفسه، لأنَّه ليس من السَّهل أن يقدِّم الإنسان حاجة أخيه على نفسه، إلا إذا تجاوز عقبةَ حبِّ الذَّات والدنيا العزيزة على كثير من النفوس.
عُرف الإيثار بدايةً - وكما مر آنفاً- بانه من مظاهر ودلالات الايمان، فكلما كان الإيثار بشيء كبير وعزيز على الانسان، يتأكد عمق الايمان في قلب الانسان، لذا كانت هذه الخصلة من صفات المجتمع الايماني الذي صنعه رسول الله، صلى الله عليه وآله، في المدينة وهناك قصص وحالات عديدة يذكرها التاريخ عن مآثر ذاك المجتمع، لذا جاءت الآية الكريمة في سورة الحشر، لتبين هذه الحالة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}،(سورة الحشر/9).
الى جانب البناء الاجتماعي - القيمي، فإن، أغلب الصفات تنتقل من الوالدين والأجداد الى الأبناء الابحاث العلمية أثبتت أن الإيثار، يأتي عن طريق الوراثة والعوامل الخارجية، مثل التربية والمحيط الاجتماعي الذي يسهم في تكوين شخصية الإنسان ، إما بالوراثة المباشرة أو بالتربية والتنمية للاتصاف بهذه الصفة أو تلك، ثم يأتي دور المحيط الاجتماعي، ليقرر النتيجة النهائية للشخصية. وربما يتحول الإيثار الى واحدة من العادات الاجتماعية لعلاقاتها بالكرم والجود والعطاء، وهو ما يتجسّد في الشعائر الحسينية التي يقيمها المؤمنون من ابناء الشعب العراقي، ففي الزيارات المليونية للإمام الحسين، عليه السلام، تظهر مواقف انسانية وايمانية مذهلة تشع أنواراً مستمرة للإنسانية جمعاء، وتحطم الأرقام القياسية عاماً بعد عام، حيث نرى الإيثار من مفهوم الخدمة المقدمة للناس؛ بغض النظر عن اللون والجنس والعرق وحتى الديانة.
فلو أخذنا مثلا خدمة واحدة، كاستقبال الضيوف الزائرين ، فإنك ترى صاحب الموكب أو المنزل يتوسل ويقبل أيدي المارة، ويصيح بأعلى صوته: «أهلاً بالزائرين الكرام... أهلاً بزوار أبي عبد الله...»، والدموع تنهمر من عينيه بصورة عفوية، والهدف من ذلك فقط لتقديم خدماته كالمبيت وغسل الملابس والسهر على راحتهم، وعند مغادرة الزائر المكان والمضيف، صباحاً، يعتذر ويطلب السماح عما اذا بدر منه قصور بحقهم، ولم يقدم الأفضل لهم، وهذه قمة الإيثار والشعور بالمسؤولية.
هذه المشاهد المثيرة للمشاعر خلال الزيارات المليونية، تمثل بالحقيقة، دروساً بليغة في الإيثار من اجل المواطن والانسان، فكم نحتاج في واقعنا المعاش إلى أن تنتشر معاني الإيثار في أماكن عملنا الخاصة والعامة، وفي كل جوانب الحياة؛ أناس مثل اصحاب المواكب الحسينية! وكم نحتاج لمواجهة الظروف المعيشية الصعبة، وحالة الأنانيّة والمصلحية، الى ذلك الإيثار الذي يدخل الارتياح في قلوب أناسٍ كثير، من حيث التسامح والتنازل من قبل السياسيين!
إن حالة حب الأنا والتعصّب للذات والجماعة، يجر سلبيات كثيرة على الناس الذين عانوا الأمرين؛ حروباً كارثية ودماراً، واضطهاداً وسفكاً للدماء وانتهاكاً للحقوق، الامر الذي يهدد هذه القيمة المقدسة بالاضمحلال في النفوس، حتى أصبح بعض الناس لا يعيشون هذه القيمة أبداً، ولا يريدونها من غيرهم. بينما يجب ان نتذكر أننا لم نكن لننعم بما ننعم فيه اليوم، لولا فضل الله - تعالى- ثم إيثار من سبقونا.
ليس هذا وحسب، إنما نحتاج ايضاً إلى لغة جديدة؛ وهي لغة تستقي معانيها من الإيثار والتضحية داخل المجتمع الصغير، متمثلاً بالأسرة وبين أفراد البيت الواحد؛ فالزّوج يضحّي ببعضٍ من برنامجه اليوميّ ليبقى مع أسرته، وكذلك الزوجة، وكذلك الأولاد، لابد من وجود روح التضحية لرعاية الأبوين وإدخال السرور عليهم، وكم نحتاج إلى أناس يتنافسون في البذل والعطاء، وشعارهم ﴿فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾،(سورة المطففين/26) وكم نحتاج أناساً ممن يقولون دائما أنا أتخلّى عن جزء مما لديّ من أرض لأوسّع طريقاً عاماً، أو أتنازل من حسابي من أجل حلّ مشكلة تؤرق انساناً محتاجاً للمال لتغطية تكاليف عملية جراحية - مثلاً- وكم نحتاج أناساً لا يفكّرون كما يفكّر البعض بكلمة: «لن أتنازل عن حقّي ولو بمقدار شبر» أو يرددون المقولة المغلوطة: «إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب» وكم نحتاج أناساً يَذْكرهم النّاس بالخير، أياديهم في الإيثار والعطاء بسخاء بيضاء ناصعة!
ليس وحده التاريخ هو الذي خلد مواقف الإيثار في حياة المؤمنين، بل الله سبحانه وتعالى ايضا خلد لنا مواقف الإيثار في حياة حملة الرسالة ، وكان ذلك بنزول سورة كاملة في القرآن الكريم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}. (سورة الإنسان / 8-9).
فقد كان سبب نزولها، إن كلاً من الإمامين الحسن والحسين، سبطي رسول الله، صلى الله عليه وآله، مرضا وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله، ومعه رجلان فقال: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذراً إن عافاهما الله...
فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عز وجل، وكذلك قالت فاطمة، عليها السلام، وقال الصبيان: ونحن ايضاً نصوم ثلاثة ايام، وكذلك قالت جاريتهم فضة.
فألبسهما الله العافية فإصبحوا صياماً وليس عندهم طعام، فانطلق علي، عليه السلام، الى جار له من اليهود يُقال له «شمعون» يعالج الصوف، فقال له: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟
قال: نعم فأعطاه، فجاء بالصوف والشعير فأخبر فاطمة عليها السلام فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فغزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير فطحنته وعجنته وخبزت منه خمسة اقراص لكل واحد قرص.
وصلّى علي، عليه السلام، مع النبي، صلى الله عليه وآله، المغرب ثم أتى منزله فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي، عليه السلام، اذا بمسكين وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا اهل بيت محمد. انا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون، أطعمكم الله على موائد الجنة، فوضع علي اللقمة من يده، وأعطاه للمسكين، وعمدت فاطمة الى ما كان على الخوان فدفعته الى المسكين، وباتوا جياعاً، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح. هذا الموقف تكرر مرة ثانية وثالثة، مع فقير ثم أسير، فنزلت الآية القرآنية المعروفة بحق أهل البيت، عليهم السلام. من هنا نعرف أنّ للإيثار منزلة خاصّة في منظومة القيم الأخلاقيّة في المجتمع البشريّ عموماً وفي الإسلام خصوصاً، فهو غاية المكارم التي لا تكتمل إلّا به، ويستحقّ به اسم الكرم والجود والسخاء، بل هو أعلى مراتبه، وعليه يمكن القول؛ ان هذه الصفة والخصلة الاخلاقية، من شأنها ان تكون عاملاً اساساً في البناء الاجتماعي الرصين والقادر على الارتقاء في سلم التقدم والتطور. ولعل هذا يكون مصداق القول الحكيم في بيت الشعر المعروف لأحمد شوقي:
وإنما الأمم الاخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا