Severity: Warning
Message: Creating default object from empty value
Filename: libraries/lib_posts.php
Line Number: 40
الصراع الأبدي بين منطق القوة وقوة المنطق سمة أساسية لتاريخ البشرية. فأنّى نظرت في التاريخ، ستجد جوهر الصراعات، والحروب، ومحتوى المساجلات، يعود الى هذا الصراع، بين الحق وقوته، وبين القوة ومنطقها.
كذلك كان بين ابني آدم، عليه السلام، اذ قربا قرباناً فتُقبّل من احدهما ولم يتقبل من الآخر، فقال لأقتلنك! قال الآخر: {إنما يتقبل الله من المتقين * لأن بسطت يديك إليَّ لتقتلني ما انا بباسط اليك يدي لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}.
من هنا بدأ الصراع بين منطق القوة، ومنطق الحق. ثم تواصل مع مسيرة الانبياء، من نوح، عليه السلام، مع قومه، ثم ابراهيم، عليه السلام، مع نمرود، وهكذا سائر الانبياء.
السؤال هنا: كيف يمكن التعامل مع هذا الصراع الأبدي؟
هناك وسيلتان:
الوسيلة الأولى: أن أصحاب الحق أيضاً يتسلحون بالقوة، وما أحسن أن يكون الإنسان على الحق ويملك القوة. مثال ذلك؛ الامام علي، سلام الله عليه، مع الحق، والحق معه، يدور أينما دار، وفي نفس الوقت كان قوياً وشجاعاً بطلاً، اذا دخل الحرب في أي منطقة، يتفرق العدو من أمامه منهزمين.
لكن هل يتسنّى لأهل الحق أن يكونوا أقوياء أبداً؟ وهل يمكن الجمع أبداً، بين الحصول على القوة وبين البقاء على الحق؟
الوسيلة الثانية: أن بعض الناس يريدون تحقيق القوة لكن بالباطل، وهذا كان منهج «الخوارج». وكان رد الامام علي، سلام الله عليه، عليهم: «والله أنا أعرف بدائكم ودوائكم، ولكن هيهات أن أصلحكم بخراب نفسي». بمعنى أني لا أفعل ما يفعله معاوية، ولا أكون مثله.
هنالك الكثيـــــر ممـــــن زعموا أن بامكانهم تحقيق أهداف دينية من خلال القتل والتشريد وإرهاب الناس، ولكنهم انقرضوا قبل أن يحققوا هذا الهدف، وكان في طليعة هؤلاء، «الخوارج»، الذين كانت بدايتهم بمنطق القوة، فيما كان منطق الامام علي، سلام الله عليه، منطق الحق، رغم انه كان يمتلك منطق القوة في الوقت نفسه. هؤلاء خاضوا الحروب بعد الامام علي، عليه السلام، فحاربوا معاوية كما حاربوا يزيد وحكاماً آخرين، وقدموا في طريقهم، الآلاف من القتلى، لكنهم لم يحققوا شيئاً من اهدافهم، لأن الدين لا يتحقق بالقوة، فلو كان الدين بالقوة لكان الله يستخدم تلك القوة.
وهكـــــــذا؛ جرّب الشـــــيء نفســـــه «القرامطة»، وجماعات عديدة في التاريخ، واستخدموا القوة المُفرطة في بث الرعب في النفوس، بهدف السيطرة والنفوذ، حتى وصل الأمر الى «داعش»، فهل يتوقع هؤلاء أن ينجحوا مع السجل الحافل بالفشل لمن مضوا في التاريخ؟
فاذا لم تنفع النصيحة مع من يفتقدون للعقل وللضمير الحيّ والأذن الواعية، نخاطب من لم يصلوا بعدُ الى هذا المستوى، بأن لا تفكروا يوماً أن تفرضوا الحق باستخدام القوة. نعم؛ الحق يجب أن يفرض على الآخرين، من خلال مبدأ: ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾، والآية الاخرى: {أدعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة}، فيجب أن تكون همتنا الجدية، الوصول الى مستوى التأثير في النفوس بكلماتنا النافذة، فاذا كانت الكلمة صادرة من القلب ومعتمدة على الله -سبحانه وتعالى- ومستمدة من القرآن، ومن كلمات أهل البيت، سوف تكون -ان شاء الله- نافذة وتصل الى القلوب وتغير المعادلة.
ورب سائل؛ عما نفعل بالقوة التي في أيدينا؟
نحن نستخدم القوة لمقارعة القوة المضادة، فنحن لا نريد من القوة في العراق - مثلاً- بأن نستخدمها في حروب متواصلة مع «داعش» في هذه المنطقة وتلك، فهذا ليس شغلنا، إنما عملنا أن نتحدث مع الناس بالكلمة الطيبة، ولا نريد أن نقود الناس، انما نريد الناس هم يقودون أنفسهم.
ولو كان الأمر غير ذلك لكان واقع العراق بشكل آخر. ولو كان العراقيون الذين حرموا من أبسط حقوهم أيام النظام البائد، يريدون أن ينتقموا لكان انتقموا بعد أيام من سقوط الطاغية، لكنهم لم يفعلوا، بل أسسوا دولة ديمقراطية، و شوروية، يشترك فيها الجميع.
نحن أتباع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي حينما فتح مكة المكرمة، قال لزعماء قريش: «اذهبوا فانتم الطلقاء»، ونحن نتبع المنطق الذي اتبعه الامام الحسين، عليه السلام، لدى لقائه بالحر وجماعته، عندما رأى أنهم في حالة عطش شديد، فسقاهم بالماء، بل نحن نتبع منطقه، عليه السلام، عندما بكى على أعدائه قبل نشوب المعركة، قائلاً: «ما أبكي على شيء إنما أبكي على هؤلاء الذين يدخلون النار».
لذا علينا الحذر من المحاولات المتكررة التي تريد زجنا في المعارك الجانبية والحروب الأهلية في العراق. وبما أننا مقبلون على الانتصارات الظافرة في مناطق عديدة، وتحرير كل شبر من أرض العراق من عناصر «داعش»، فان المرحلة القادمة ينبغي ان تتسم بالحالة التي كانت في صدر الاسلام، وتحديداً، كما فعل رسول الله، والأئمة المعصومون، عليهم الصلاة والسلام، وأن نؤسس لحياة آمنة لجميع العراقيين، سنةً و شيعة، عرباً وأكراداً وتركمان ومسيحيين، فالأرض لله ولمن هو يعيش عليها، وهذه هي سياستنا واستراتيجيتنا، وليست الحرب والانتقام.
وهذا لا نلاحظه فقط في ميدان السياسة، وإنما في الاعلام ايضاً، حيث إن بعض وسائل الاعلام، وبدلاً من أن تتبع منهج قوة الحق، وقوة الكلمة الصادقة، وقوة الجدال بالتي هي أحسن، نرى انها تلجأ لقوة الحرب الكلامية، واستخدام السب والشتم بدوافع من عصبيات وحميات جاهلية، بهدف التسقيط والتشهير.
ما جرى على أهل البيت، عليهم السلام لم يكن صدفة، إنما هو تقدير إلهي للدفاع عن الدين، و لكي تتقدم قوة المنطق على منطق القوة، ولذلك صبروا على أنواع الأذى والضغوطات.
وفي تلك الظروف العصيبة والمرحلة التاريخية الفاصلة، عندما تم اغتصاب حق أهل البيت، عليهم السلام، بعد استشهاد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، دخل الامام علي، عليه السلام، البيت فرأى فاطمة، سلام الله عليها، جالسة وهي تبكي، ثم بدأت تعاتبه بالقول: «أ يُغصب حقي وأنت موجود....»؟ وفي بعض الروايات، حسبما سمعت، أن الامام قام وجرّد سيفه وهمَّ أن يخرج من البيت، في تلك اللحظة سمع المؤذن يقول: «اشهد أن محمداً رسول الله»، فقال» يا فاطمة، أ تريدين لهذا الصوت أن يبقى؟ قالت: نعم، فقال: إذن؛ يجب أن تصبري، وتحتسبي الله، فقالت: احتسبت الله. وبعد تلك المحادثة، لم تتكلم الصديقة الزهراء، عليها السلام، كلمة واحدة مع أمير المؤمنين، سلام الله عليه، حول ما جرى عليهم.
إن الصديقة الزهراء، عليها السلام، مثال التضحية والصبر والإباء، وهو ما يجعلنا أمام مسؤولية تكريم الشهداء الذين ضحوا بارواحهم من أجل الدين والقيم، فهؤلاء الشهداء الذين ضحّوا في سبيل الله، يكونون شفعاء لنا يوم القيامة، وذلك عندما تحترمه وتكرمه وتكرم عائلته و أولاده اليتامى.
من هنا؛ أدعو الناس جميعاً، بأن يذهبوا الى زيارة عوائل الشهداء، ضمن وفود نسوية وأخرى من الرجال، كما من الجيد ايضاً زيارة قبور الشهداء، إن أمةً تكرم شهداءها لن تموت، والأمة التي تكرم الشهيد والشهداء، تبقى دائماً مستقيمة، ومقاومة ومتحدية ومنتصرة بإذن الله - سبحانه وتعالى-، كما ينبغي ايضاً تكريم الجرحى والمصابين.
على الشعب العراقي أن يرتفع الى مستوى التحدي وتحمل المسؤولية، والى مستوى الأبطال الذين يحاربون في جبهات القتال، لا أن يكون هنالك من يذهب الى الجبهات ويضحّي بنفسه وبدمه وبشبابه، فيما هنالك من يمارس حياته العادية، يبيع ويشتري وينام في بيته مرتاحاً، فهذا أمر مرفوض، فان الذين يسقطون شهداء في ساحات المعارك اليوم، إن لم تكن لنا معهم قرابة الدم، فانهم اخواننا في الدين والوطن والمذهب، فاذا استشهد المجاهد في سبيل الله، يجب أن يكون هنالك من يحمل الراية خلفه. وإذا سمعنا يوماً أن جبهاتنا فارغة من الإمكانات، أو فيها ضعف في التسليح والدعم اللوجستي، فان الحكومة والدولة ليست هي المسؤولة وحدها، إنما الشعب كلهم مسؤولون، فعليهم أن يقوموا بنهضة واعية من أجل خدمة دينهم ووطنهم.