A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - أثر الإيمان بالله ودوره في تحقيق الاستقلال

أثر الإيمان بالله ودوره في تحقيق الاستقلال
كتبه: علي عبد الحسين
حرر في: 2017/11/08
القراءات: 1541

«لا اله إلا الله» هذه الكلمة الثقيلة في ميزان الكون، لها أبعاد عديدة من جملتها الاستقلال والحرية والتقدم والكمال، وفي هذا الحيّز المحدود سنصب اهتمامنا على البعد الاول (الاستقلال) لما عانته الشعوب من تبعية للخارج - وما تزال - على مختلف الصُعد؛ الاقتصادية والسياسية والأمنية.

ولطالما سمعت هذه الشعوب ومُلئت آذانها بشعارات «الاستقلال عن الأجنبي» والتشدّق بـ»الوطنية»، ولكن لا نرى سوى الانغماس يوماً بعد آخر في التبعية والانقياد الى القوى الكبرى، حتى في لقمة العيش والأمان والحرية.

فكيف يصل الانسان الى الاستقلال الحقيقي في حياته؟

 الضغوط النفسية تدفع الى التبعية

ان الانسان لو قُدر في ميزان المادة فسوف لن يكون إلا شيئاً ضئيلا، لأنه جزء من هذا الكوكب الذي هو جزء من المنظومة الشمسية وهي ـ بدورها ـ تمثل جزءاً من مجرات بُعدُ بعضها عن بعض آلاف الملايين من السنين الضوئية، وفي مجال ضعف الانسان وعجزه يقول الامام علي، عليه السلام: «مسكين ابن آدم مكتـوم الأجـل، مكنـون العلل، محفـوظ العمـل، تؤلمـه البقـة وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة».

ولكن ما الذي يجعل هذا الانسان الضئيل والمحدود، قادراً على اقتحام المجهول وغزو الفضاء وسبر غور المحيطات وتسخير ما في الكون؟ انه الاستقلال؛ فاذا كان جزءاً من هذه الطبيعة، وريشة في مهب رياح الشهوات التي هي رابط بينه وبين الطبيعة المحيطة به، فسوف لن يتمكن من فعل أي شيء.

من أجل ذلك فان معركة الانسان الأولى فوق هذا الكوكب انما يخوضها مع تلك الطبيعة، وذلك المجتمع الذي يريد سرقة استقلاله وتحويله الى جزء من هذه الدورة التي لا تنفك عن الدوران.

بيد أن البعض يتصور الأمر بالسهولة التي تحقق له الاستقلال والتنعّم بالعزة والكرامة في الحياة دون كثير عناء، ولعل هذا ما جعل هذا المفهوم مجرد شعار جميل ومثير يرفع هنا وهناك، فالناس لا تعرف ما الذي عليهم فعله لتحقيق هذا الأمل المنشود.

إن القضية ليست في الظواهر الخارجية، كأن يُصار الى رفع يد هذه الدولة عن التدخل في شؤون دولة أخرى، او العمل على التخفيف من اعتماد هذه الدولة في استثماراتها النفطية والزراعية وغيرها على الشركات العالمية الكبرى، فهذا وغيره كثير، يمثل المعطى الظاهري للأمر، إنما المهم في إرساء دعائم الاستقلال من الضغوط النفسية داخل الانسان، ولذا يؤكد علماؤنا على المبدأ الثابت بأن الدخول في «حصن لا إله إلا الله»، والارتباط المباشر برب العالمين، يولد الشعور بالقدرة على التحدي، وقول كلمة «لا» لكل من يريد سلب استقلاله كالطبيعة او المجتمع الذي يريد ان يسخره لمصالحه او القانون الذي يستهدف سحقه او السلطة التي تبتغي إخراجه من النور الى الظلمات، وهنا تكمن فلسفة الحديث المعروف: «كلمة لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي».

بمعنى أن الخروج عن حصن الله - تعالى - يؤدي بالإنسان الى التكبيل بقيود التبعية، ليس فقط للعوامل الخارجية، وإنما للضغوط الداخلية في نفس الانسان، من شهوات ورغبات جامحة تدفعه لأن يقوم بأي عمل، حتى وإن كلفه حياته وحياة ومصير الآخرين.

 أصحاب الكهف والاستقلال الحقيقي

إن قصة أصحاب الكهف الذين تفجّرت فيهم ينابيع الإيمان، خير قدوة وأسوة فـي مجال تحقيق الاستقلال الحقيقي، فقد كان هؤلاء الفتية من اتباع نبي الله عيسى بن مريم، عليهما السلام، وكانوا وزراء لملك يدعي «دقيانوس» الذي كان واحدا من العائلة القيصرية، وفيما يلي نستعرض موجزاً من قصتهم كما يرويها لنا الامام علي، عليه السلام، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، نظرا لأهمية الاطلاع عليها في ادراك ضرورة الاستقلال، وضرورة ان يجعله الانسان المؤمن الهدف الاول والأخير له في هذه الحياة.

يقول أمير المؤمنين، عليه السلام: «كان بأرض الروم مدينة يقال لها اقسوس، وكان لها ملك صالح، فمات ملكهم فاختلفت كلمتهم فسمع بهم ملك من ملوك فارس يقال له (دقيانوس)، فأقبل في مائة الف حتى دخل مدينة اقسوس، فاتخذها دار مملكته، واتخذ فيها قصرا طوله فرسخ في عرض فرسخ، واتخذ في ذلك القصر مجلساً طوله ألف ذراع في عرض مثل ذلك من الرخام الممرد، واتخذ في المجلس أربعة آلاف أسطوانة ذهب، واتخذ الف قنديل من ذهب لها سلاسل من اللجين تسرج بأطيب الأدهان، واتخذ في شرقي المجلس ثمانين كوة، ولغربيه كذلك وكانت الشمس اذا طلعت، طلعت في المجلس كيفما دارت، واتخذ فيه سريرا من ذهب طوله ثمانون ذراعا في عرض اربعين ذراعا له قوائم من فضة مرصعة بالجواهر، وعلاه بالنمارق، واتخذ من يمين السرير ثمانين كرسيا من الذهب مرصعة بالزبرجد الأخضر، فأجلس عليها بطارقته، واتخذ من يسار السرير ثمانين كرسيا من الفضة مرصعة بالياقوت الأحمر، فأجلس عليها هراقلته، ثم علا السرير فوضع التاج على رأسه.

ولما نظر الملك الى ذلك عتا وتجبر، فادّعى الربوبية من دون الله، ودعا الى ذلك وجوه قومه فكل من أطاعه على ذلك أعطاه و حباه و كساه، وكل من لم يبايعه قتله، فاستجابوا له فوراً، واتخذ لهم عيدا في كل سنة مرة، فبينما هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه، والهراقلة عن يساره، اذ أتاه أحد البطارقة وأخبره ان عساكر الفرس متوجهة اليه للقتال، فاغتم لذلك حتى سقط التاج عن رأسه، فنظر اليه احد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه يقال له «تمليخا»، وكان غلاما فقال في نفسه: لو كان دقيانوس الها كما يزعم، اذا ما كان يغتم ولا يفزع، وما كان يبول ولا يتغوط، وما كان ينام، وليس هذا من فعل الآلهة، قال: وكان الفتية الستة كل يوم عند احدهم، وكانوا ذلك اليوم عند (تمليخا)، فاتخذ لهم من طيب الطعام، ثم قال لهم: يا اخوتاه...! قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام، قالوا: وما ذلك يا تمليخا؟ قال: اطلت فكري في السماء فقلت: من رفع سقفها محفوظة بلا عمد، ولا علاّقة من فوقها؟ ومن اجرى فيها شمسا؟ ومن زينها بالنجوم؟ ثم أطلت الفكر في الارض فقلت: من سطّحها على ظهر اليم الزاخر؟ ومن حبسها بالجبال ان تميد على كل شيء؟ و طلت فكري في نفسي فقلت: من أخرجني جنينا من بطن أمي؟ ومن غذاني ومن رباني؟ ان لها صانعا ومدبرا غير دقيانوس الملك، وما هو إلا ملك الملوك وجبار السماوات، فانكبت الفتية على رجليه يقبلونهما، وقالوا: بك هدانا الله من الضلالة الى الهدى، فاشر علينا، فوثب تمليخا فباع تمرا من حائط له (بستان) بثلاثة آلاف درهـم، وصرها في ردنه وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة، فلما ساروا ثلاثة أميال، قال لهم تمليخا: يا أخوتاه؛ جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعل الله ان يجعل لكم من أمركم فرجا ومخرجا، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم فجعلت أرجلهم تقطر دما.

فاستقبلهم راع فقالوا: يا ايها الراعي هل من شربة لبن او ماء؟ فقال الراعي: عندي ما تحبون ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك، وما أظنكم إلا هاربين من دقيانوس الملك، قالوا: يا ايها الراعي لا يحل لنا الكذب، أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصتهم، فانكبّ الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول: يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم، ولكن أمهلوني حتى ارد الأغنام على أربابها وأَلحق بكم، فتوقفوا له، فرد الأغنام واقبل يسعى يتبعه كلب له.

فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علاهم جبلا، فانحط بهم على كهف يقال له الوصيد، فاذا بفناء الكهف فيه أشجار مثمرة، فأكلوا من الثمر وشربوا من الماء وجنهم الليل فآووا الى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومد يديه عليه، فأوحى الله ـ تعالى ـ الى ملك الموت بقبض أرواحهم، ووكل الله بكل رجل ملكين يقلبانه من ذات اليمين الى ذات الشمال ومن ذات الشمال الى اليمين، فأوصى الله ـ عز وعلا ـ الى خزان الشمس فكانت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وتقرضهم ذات الشمال.

وبعد؛ فهذه قصة رجال وجدوا استقلالهم فهتفوا والإيمان يعمر قلوبهم: {هَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، (سورة الكهف: 15).

 عبادة المنصب تناقض الاستقلال

ان التنازل عن كرسي السلطة ليس بالأمر اليسـير على الانسان، فهناك أناس عندما يجلسون على كرسي لموظف صغير، او يصبحون كتّاباً في دوائر الحكام، سرعان ما يفقدون استقلالهم و إيمانهم، ويبدؤون بالتكبر على الآخرين، وأصحاب الكهف كانوا في عزّ سلطانهم، وبيدهم كل شيء، إلا انهم جردوا انفسهم منها في سبيل الله - سبحانه وتعالى -، لان أرواحهم اتصلت بكهف الاستقلال وحصن التوحيد، وأصبحت قلوبهم مضاءة بنور الإيمان، ولذلك فقد خلد ذكرهم على صفحات التأريخ، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُـمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّءْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً}، (سورة الكهف: 16).

وقد زادهم الله ـ تقدست أسماؤه ـ شرفا فوق شرفهم إذ غير قوانين الطبيعة من أجلهم، كما تصرح بذلك الآية التالية: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَـمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً}، (سورة الكهف:17).

وهكذا؛ فان في تاريخ الأديان السماوية، قبل ظهور خاتم الأنبياء، صلى اللـه عليه وآله، وبالذات في تاريخ اتباع عيسى بن مريم، عليهما السلام، صفحات مشرقة تتلألأ نوراً وضياءً لابد ان ندرسها، فمع ان المسلمين في عهد الرسول، صلى الله عليه وآله، بذلوا من مهجهم الكثير، إلا ان هناك مسلمين آخرين ظهروا قبلهم كأتباع عيسى وموسى وإبراهيم ونوح، عليهم السلام، اجهدوا انفسهم في سبيل الله ـ عز شأنه ـ واذا كنا نرى اليوم ان نصف البشرية يعبدون الله بصورة او بأخرى فان الفضل يعود في ذلك الى أولئك المؤمنين الأوائل.

ولذلك فان هذا الحديث ليس للماضي والتاريخ، بل هو حديث اليوم الذي يعيش فيه العالم الإسلامي معركة الاستقلال التي هي معركة التوحيد، فالإنسان الذي لا يؤمن بالله ـ سبحانه ـ لا يفكر في الاستقلال، والمؤمن الذي لا يفكر في الاستقلال فان في إيمانه ضعفاً وفشلا، ولابد له من ان يغير منهجه، فكيف يمكن لإنسان ان يدّعي الإيمان بالله وهو يخضع لقوانين السلاطين ويحارب تحت ألويتهم ويكتب في دواوينهم ويغدو جزءاً من استراتيجياتهم؟ وكيف يمكن لإنسان ان يدّعي انه عبد الله وهو من عبدة الطاغوت؟ وما الفرق بينه وبين المشركين الذين حاربوا الرسـول، صلى الله عليه وآله، فهم هم الآخرون كانوا يعبدون الله، إلا انهم كانوا يجعلون له ـ تعالى ـ أندادا، ويعتقدون ان هؤلاء الأنداد هم شفعاؤهم الى الله؟ وقد صرح بذلك القرآن الكريم في قوله: {وَالَّذِيــنَ اتَّخــَذُوا مــِن دُونــِهِ أَوْلِـيَآءَ مَا نَعْبــُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، (سورة الزُّمر: 3).


ارسل لصديق