A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - الطائفية عوامل الصراع وآفاق التقارب

الطائفية عوامل الصراع وآفاق التقارب
كتبه: الشيخ معتصم السيد احمد
حرر في: 2012/10/29
القراءات: 1968

وجود طوائف ومذاهب في الواقع الإسلامي، أمرٌ يكاد أن يكون من مسلمات الوعي الديني، والادّعاء بأن واقع المسلمين موحد، إدّعاء فيه مجازفة تتجاوز أبسط البديهيات، ومن هنا فإن الضرورة العقلية تقتضي تسمية الأمور بمسمياتها، لفتح الباب أمام ممارسة نقدية؛ من أجل بناء الوعي الديني على أسس عقلانية.

ونحن هنا لا نقول بأن الإسلام ليس ديناً واحداً، إنما وعيُنا به ليس واحداً؛ لأن هناك مساحة فاصلة بين الإسلام الموحد في واقع نصِّه، وبين الإسلام المتباين في واقع فهمه، والضابط لهذا التباين هي العقلانية، التي تجعل هذا التباين في مساراته الطبيعية، وأهم هذه المسارات هي تبين ما يجوز فيه الاختلاف وما لا يجوز، بمعنىً آخر، هل الإسلام دين واحد، ذو سمة واحدة، واتجاه واحد، وذلك بوصفه ديناً من إله واحد، على رسول واحد، بكتاب واحد؟ أم أن الإسلام بلحاظ آخر، هو مخاطب للإنسان المتباين، بطبعه المختلف في وجهات نظره، وبالتالي لا بد أن يتسع الإسلام باتّساع أفق الإنسان؟.

إن الذي يؤمن بضرورة التباين لا يتجاوز حقيقة النص الموحد، وفقاً لقاعدة: "ثبات الإطار وحركة المحتوى"، فأما ثبات الإطار، فلِما يمثله النص من امتداد للخطاب الإلهي. وأما حركة المحتوى فلضرورة انسجام المحتوى المعرفي مع الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان بوصفه موجوداً تاريخياً، يتحرك ضمن إطار الظرف الزمني الذي يعيشه؛ الأمر الذي يجعله دوماً عرضة للتغير الدائم، بسبب تبدل الظروف ومقتضيات الواقع، وبما أن المعرفة هي جزء من مكتسبات الإنسان، فهي بالتالي قابلة للتغير أو التشكل ضمن أطر جديدة تراعي المرحلة.

هذا التباين بين النظرتين للإسلام، تنعكس منه ممارسات على مستوى السلوك، فأصحاب النظرة الأولى لا يعترفون بأي فهم آخر مخالف لفهمهم، وبالتالي يمكنهم تصنيف الجميع - سواهم- في دائرة الضلال، والابتعاد عن الدين، أما أصحاب النظرة الثانية، فيمكنهم قبول الجميع، بوصفهم مجتهدين في دائرة النص.

وللجمع بين وجهتي النظر، لا بد من الاعتراف بكلتا الحقيقتين، وهما أن الإسلام دين واحد، ولكنه في الوقت نفسه، يراعي واقع التباين عند الإنسان، ولا يجيز الاختلاف في الثوابت، التي تمثل قيم الإسلام الأساسية، وبها يكون الإنسان مسلماً، ومثال هذه القيم؛ التوحيد بكل ما يشتمل عليه من معانٍ، وبمعنى آخر، أصول العقائد ومحكماتها، والتعبير بمحكماتها، يفتح الباب أمام إمكانية تعدد وجهات النظر حول ما يمكن الاجتهاد فيه من تفصيلات العقائد، فالإنسان المسلم لا يجوز له أن يقلد الآخر في اعتقاداته، فلابد له من اليقين الدال على ثبوتها.

أما ما يجوز فيه الاختلاف، فهو ما يتعلق بالمتغيرات التي تلاحق الإنسان في حركته مع الزمن، فالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو واقع متغير، ينفتح معه باب الاجتهاد واسعاً.

والمهم هنا أن المسلمين ليسوا أنبياء ورسلاً، إنما هم بشر، فإذا كان من الطبيعي، أن يكون البشر خطائين في ما يصدر عنهم من سلوك، فالمسلمون أيضا يخطئون على مستوى الفهم، ويتباينون في الاعتقاد، إذن؛ لا مبرر لما نشهده من القطيعة والهجران بين أبناء الأمة، في حين أن الاختلاف مسألة مبررة على المستوى الفكري والمعرفي، أكثر منه على المستوى السلوكي والعملي.

من هنا نعرف، أن الاختلاف مسألة طبيعية، والسبب في ذلك، هو الاختلاف على مستوى الفهم، وظروفه، وطبيعته، والبيئة التي يتولد فيها، فكلها أسباب يجب الاعتراف بها أولاً، حتى يصبح الاعتراف بضرورة التباين أمراً بديهياً.

وإذا حاولنا أن نجد مصداقاً لما ذكرنا من واقعنا الإسلامي، فإننا سوف نجد أن كل الخلافات المذهبية، ترجع إلى تباين مستويات الفهم، فالخلاف مثلاً بين الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة حول مسألة فعل العبد، هل هو مجبور أم مختار؟ نجد أن المعتزلة قالوا بحرية العبد، معتمدين في ذلك على بعض النصوص، التي يظهر منها حرية عمل الإنسان، وعلى هذا، فإن الفهم المعتزلي اعتبر تلك النصوص محكمات، في حين أن النصوص التي يظهر من بعضها جبرية العبد، اعتبرت في المنظور المعتزلي من المتشابهات التي يجب تأويلها، هذا الموقف هو بخلاف الموقف الحنبلي، الذي اعتبر النصوص الدالة على الجبر من المحكمات، في حين اعتبر النصوص التي تدل على الحرية من المتشابهات، فكان فهمهم لموضوع فعل العبد معاكساً لموقف المعتزلة، وفي الطرف الآخر، نجد أن الأشاعرة جاءوا بفهم آخر لموضوع فعل العباد، وهو نظرية الكسب، التي تعني في ما تعني أن الإنسان كاسب لأفعاله، فهو أشبه بالظرف للمظروف، وهي نظرية أقرب إلى تبرير الموقف الحنبلي.

وبالمحصلة، نحن أمام ثلاثة مذاهب في موضوع الجبر والاختيار، وكلها وجهات نظر يمكن أن تكون مبررة، إذا ظلّت ضمن إطار الفهم والاجتهاد، ولكن الخطورة تكمن في تحول تلك المسألة، من باب التباين الطبيعي للفهم، إلى دائرة أخرى تحركها عوامل غير معرفية، عندما تحولت هذه المسألة إلى سبب للقطعية والهجران بين المسلمين، وعندما يكفر بعضهم بعضاً واستبيحت دماؤهم.

وهكذا إذا تتبعنا كل أسباب الخلاف بين المذاهب، سنجد أنها ترجع كلها إلى سبب الاجتهاد في دائرة النص، ولذلك فإن تحويل تلك التباينات في وجهات النظر، إلى موضوع صراع بين أبناء الأمة الواحدة، فهو مما لا يمكن تبريره، ويمكننا الجزم بأن المشكلة ليست عقلية، وإنما هي نفسية بامتياز، تحركها مصالح سياسية وحزبية ضيقة.

وإذا كان هناك مشروع جدّي لتوحيد المسلمين، فلا بد أن يبدأ هذا المشروع أولاً بتكريس ثقافة التعددية، والاعتراف بالآخر مهما كان مخالفاً، والتسالم ثانياً على أن الوحدة لاتعني بالضرورة التطابق الكامل في الأفكار، لأن هذا الأمر من الصعوبة بمكان، وإنما تعني التوافق على مشتركات تمثل صبغتنا وهويتنا، وفي نفس الوقت فتح الباب واسعاً أمام عقليات الأمة للإبداع، ضمن تجدد دور الاجتهاد.

والطائفية التي اتخذت طريقها إلى تفكيك البنية الاجتماعية للأمّة، كانت نتاجاً طبيعياً للفهم الذي حوّل الإسلام إلى قشور، بعيداً عن الروح والمحتوى، والإنسان يكون شديد التعصب عندما لا يمتلك إلا خياراً واحداً، ويرى أن هذا الخيار مهدد، وكذلك عندما يفهم الإسلام ضمن صور جامدة لا تقبل التعدد والاجتهاد، الأمر الذي يؤدي إلى شعور الإنسان بامتلاكه وتفرده بالحقيقة، في حين أن الحقيقة أعمق من هذا التصور المحدود، كما أن فهم الدين في إطار القيم، وخاصة القيم الكبرى التي تؤسس للتعاون والتكامل البشري، كفيل بتذويب هذه الروح الطائفية، فإذا كان الدين، بكل عقائده وأحكامه وأدبياته وتعاليمه، يحقق قيماً إيجابية، فهذا كافٍ للحكم على أن الطائفية ليست من الإسلام، لأنها قيمة سلبية تقف عائقاً أمام تقدم الإنسان وتكامله، بل تؤسس لتقويض البناء الإنساني.

ولا نريد التأسيس للنسبية، ولا التنكر لوجود حقائق تمثل مراد الله، وإنما الحديث هو عن مستوى فهم الإنسان لهذه الحقائق، فالحقائق شيء وفهمي لها شيء آخر، فمهما بلغت الحقيقة من الوضوح فلا ترتقي إلى درجة أن تكون جزءاً من الإنسان، بالتالي لا يحق لي أن أحاكم الآخرين على مستوى فهمي.

وهذا الأمر غير التنافس العلمي والفكري للوصول إلى تلك الحقائق، فالتنافس يرتكز في واقع الأمر على كون الحقيقة شيئاً آخر غير ما أملك، هذا الشعور بحد ذاته لا يدع مجالاً لتسرب الطائفية إلى روح الإنسان، لأنه كلما تعلم وازداد علماً، كلما أكتشف أنه بعيد عن الكمال، فالتوحيد- مثلاً- له معانٍ لا تنفد، فكلما تأمل الإنسان وتدبر يجد نفسه بعيداً عن الإحاطة بعلم التوحيد، أما الذي يعتقد أن التوحيد هو توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية، ويمكن شرحه في عشرات الصفحات التي يمكن حفظها عن ظهر قلب، فإن فهمه هذا يتحول إلى معايير لمحاكمة الآخر، الذي يخالف بعض القواعد المشروحة في هذه الصفحات، لأن الإنسان بعد حفظ هذه الصفحات، يعتقد أنه امتلك الحقيقة وأصبح معبراً عنها، وهذا ما وقعت فيه بعض المدارس السلفية، الأمر الذي جعلها رائدة الفكر الطائفي.

--------------

* عالم دين من السودان


ارسل لصديق