A PHP Error was encountered

Severity: Warning

Message: Creating default object from empty value

Filename: libraries/lib_posts.php

Line Number: 40

مجلة الهدى - الأنبياء وتجارب الإصلاح مع الأمم (1)

الأنبياء وتجارب الإصلاح مع الأمم (1)
مكافحة الفساد الاقتصادي
كتبه: السيد سجاد المدرسي
حرر في: 2017/08/31
القراءات: 2229

من أبرز الأهداف وراء بعثة الأنبياء والرسل وإنزال الرسالات؛ إعادة الناس إلى فطرتهم النقية التي فطرهم الله عليها، أي فطرة الإيمان والتوحيد، بعد أن تراكم عليها ركام الجهل والغفلة والشهوة.

وبطبيعة حاله؛ يركن الإنسان إلى الدنيا بعد الهداية والصلاح فتبدأ مسيرة التسافل عنده حيث يبدأ بظلم نفسه بالكفر قبل ظلم غيره بالبغي والتعدي.

وكلما انحرفت المجتمعات البشرية بأجمعها وبدأت بالانحدار بعث الله إليهم نبياً لينذرهم مغبة ما يفعلون ويدعوهم إلى الإيمان بالله سبحانه، فمن استجاب منهم سعد ونجا، ومن استكبر وجحد كان مصيره إلى الردى بسبب أفعاله الخاطئة، كما يهلك المريض المعاند لطبيبه.

ولأن شهوات الإنسان وميوله مختلفة، فإن الظواهر السلبية؛ من انحرافات وأمراض اجتماعية ونفسية تكون متعددة تبعاً لتلك الميول، وقد ابتليت كل أمةٍ من الأمم بمرضٍ أو أكثر، تمظهر في الواقع الاجتماعي المعاش، فبعث الله إليهم الأنبياء لعلاجها.

وبالرغم من أن معالجة الأنبياء لتلكم الظواهر، كانت من خلال علاج جذر المرض وهو الكفر بالله سبحانه واليوم الآخر، عبر تثبيت دعائم الإيمان، إلا أنهم لم يغفلوا عن المظاهر الطافحة على السطح، بل أولوا لها اهتماماً واضحاً من خلال دعوتهم، فلذلك كانت دعوة كل نبيٍ تتضمن علاجاً للأمراض الموجودة في المجتمع.

وفي هذه السلسلة من المقالات سنسعى - بإذن الله سبحانه - إلى تسليط الضوء على بعض تلكم الظواهر السلبية التي دعا الأنبياء إلى الابتعاد عنها، وليس الهدف من ذلك مجرد دراسة تاريخية بحتة، إنما استقصاءً للتجارب واستخراج أفضل العلاجات الناجعة لأزماتنا الراهنة في المجالات كافة.

فالإنسان العصري ليس مختلفاً عن أجداده في الشهوات والرغبات ومن ثمَّ ليس مختلفاً مع أسلافه في جذور الانحرافات وإن اختلفت المظاهر وتطورت الأساليب، ومن جهة أخرى فإن نتائج الانحراف هي واحدة سواء كان الإنحراف في القرون الأولى أو كان في عصر فلق الذرة وتقنية النانو.

 

 الفساد الاقتصادي ظاهرة اجتماعية

قد يصاب الإنسان - الفرد - بمرض ما، ثم يتم علاجه، ولكن؛ أحياناً يصاب المجتمع بأسره بحالة مرضية معينة، فهذا يعني أن المرض ليس عادياً، وإنما هو وباءً معدي وخطير قد يفتك بالجميع، وحينئذ لا تفلح المعالجات الفردية بل لابد من مواجهة الظاهرة من جذورها.

والظواهر الاقتصادية السلبية هي الأخرى قد تصيب فرداً لطمعه وجشعه حيث يقوم بأكل الربا أو احتكار السلع الأساسية، فيمكن مواجهته بل ومحاربته حتى يعدل عن انحرافه، وقد يصيب المجتمع كله، حينها يفقد الجميع روح الإيمان، ويتراجع الطابع الإنساني من قلوب أبنائها.

وليست هذه الظواهر على نحو واحدٍ، بل هي الأخرى متعددة ومختلفة كالربا والاحتكار والتطفيف والغش، ولكن مصدرها شيءٌ واحد وهي حالة الاستئثار لدى الإنسان والسعي وراء مصالحه الشخصية على حساب مصلحة الآخرين.

أما النتائج والمآلات، فتكون في تفتيت نسيج المجتمع ونزع الثقة فيما بينهم، مضافاً إلى حدوث الطبقية المقيتة بين أصحاب الثروات الهائلة وبين المدقعين في الفقر، الأمر الذي يعد أرضية خصبة لحدوث الثورات والاحتراب الداخلي ومن ثَّم هدم البلاد.

هذا يُعد بعض النتائج المشهودة في الحياة الدنيا، أما في الآخرة وفي يوم الحساب، فإن المفسد وآكل أموال الآخرين، سيواجه عقاباً شديداً نكالاً بما تسبب من كوارث ومعاناة للمجتمع والأمة.

 

 أصحاب الأيكة ومثال الفساد

أولى القرآن الكريم اهتماماً بالغاً بموضوع المال ومصارفه وطرق التعامل معه، وحدود التداولات الاقتصادية، أوليس المال عصب الحياة قوام المجتمع كما قال ربنا سبحانه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتي‏ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً}، (سورة النساء: 5).

ويحكي لنا القرآن الكريم، في أكثر من موضع، قصة قوم نبي الله شعيب، عليه السلام، الذين انسلخوا عن الإيمان بالله سبحانه وانحرفوا عن العقيدة الحقة، وتبع ذلك انحرافهم في السلوك الخارجي الذي تمثل جانباً منه في الفساد الاقتصادي.

كان أصحاب الأيكة يقطنون مدين في طرف الجزيرة العربية من جهة شمال الغرب، وبجانبهم غابة خضراء، والأيكة؛ «هي الأشجار الملتفة حول بعضها»1 وحيث كان رزق الله سبحانه يأتيهم رغداً، بطروا في معيشتهم طلباً للمزيد وطمعاً في إشباع نهمهم، فصار المال إلهاً يعبدونه من دون الله - وإن زعموا عبادة شجرة الأيك - وصارت بغيتهم في الحياة الاستزادة من هذا المعبود البرّاق ولو على حساب الآخرين، فبات نقص الموازين فيما يُكال أو يوزن، وبخس الأشياء المعدودة، الطابع السائد على المعاملات التجارية لأهل هذه البلدة.

 

 نبي الله شعيب والحركة الإصلاحية

«جاء شعيب رسولا من قبل الله إليهم وأمرهم بعبادة الله، وتنفيذ تعاليم السماء، ونهاهم عن عبادة ذواتهم، أو عبادة الثروة الزائلة، كما نهاهم عن الإنقاص في المكيال والميزان؛ لأنه نوع من الظلم والعلاقة الفاسدة بين أبناء البشر والتي سوف تؤدي إلى زوال الخير، وحذرهم من يوم يحيط بهم عذابه فلن يجدوا مفرا منه»2.

فكانت أولى دعواته بعد دعوته بالعودة إلى الله سبحانه، هي العودة إلى الفطرة السليمة وإقامة الموازين في المعاملات التجارية، وكما قال الله سبحانه: {وَإِلى‏ مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْميزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين‏}، (سورة الأعراف: 85).

الإيمان بالله سبحانه يستدعي الوفاء بالكيل بصورة تامة وعدم بخس الناس أشياءهم المادية والمعنوية، وعدم الإفساد في الأرض الذي قد يكون نتيجة الفساد الاقتصادي.

ومن هنا جاءت دعوة النبي شعيب، عليه السلام، إلى إصلاح مسيرة الاقتصاد في قومه، من اقتصاد قائم على أساس الاستغلال والاستئثار، إلى اقتصاد قوامه الوفاء بالحق وبتلك الدعوة تبدأ مسيرة الإصلاح.

يقول المرجع المدرسي - دام ظله - في تفسيره «من هدى القرآن»: «حين يكون المجتمع رشيدا من الناحية الاقتصادية فإنه لا ينهب ولا يغش، بل ولا يفحش في الربح أيضا أو يسعى كل طرف للحصول على المنفعة الكبرى، وهذا هو التطلع الأرفع الذي يجب أن يهدفه المصلحون في حقل الاقتصاد، أن يرى كل طرف منفعة الآخرين بمثل ما يرى منفعته فلا يبخس أحدا شيئا»3.

وفي سورة هود تحدثنا الآيات عن حركة النبي شعيب، عليه السلام، الإصلاحية بقول الله سبحانه: {وَإِلى‏ مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْميزانٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحيط}، (سورة هود: 84).

فقول النبي لهم: ﴿إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ يدل على رفاهية حياتهم المادية بحيث لا يحتاجون معها إلى الطرق الملتوية للحصول على المال، فضلاً عن أن سلوك السبل المنحرفة يؤدي إلى خسارة هذه الحياة الجيدة وحلول عذابٍ يومٍ محيطٍ عليهم.

ثم قال تعالى عن لسان نبيه شعيب: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْميزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدين‏}، (سورة هود: الآية 85).

ثلاث ثغرات بدأت تنخر كيان حضارتهم باتساعها شيئاً فشيئاً، وقد حذّر النبي شعيب، عليه السلام، قومه منها وهي:

اولاً: الاستهانة بالمعايير الاقتصادية التي كانت موضع ثقة الجميع واستبدالها بالتطفيف وخسران الميزان وبخس الأشياء، الأمر الذي يهدد زعزعة النظام الاجتماعي.

ثانياً: استبدال العلاقة الاجتماعية القائمة على احترام حقوق الآخرين، بحالة الصراع الطبقي، ومحاولة البعض للاستيلاء على حقوق الآخر.

ثالثاً: البدء بالافساد في الأرض بالهدم والإفساد والإسراف في الانتفاع.

 

 ردود الفعل برفض الإصلاح

لما كانت أوامر شعيب، عليه السلام، تستدعي التخلّي عن المصالح الآنية، فإن قبولها كان أصعب من حمل الجبال الراسيات، ومن هنا رفض المنتفعون من النظام الاجتماعي المنحرف، دعوة النبي شعيب، عليه السلام، جملةً وتفصيلاً متهمة إياه بالتأثر بالسحر - كما في سورة الشعراء - وتهديده بالرجم - كما في سورة هود - رغم إقرارهم بأنه رجلٌ حليم ورشيد، حيث أجابوا دعوته بقولهم: {قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ في‏ أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَليمُ الرَّشيدُ}، (سورة هود: 87)، وقالوا له أيضاً: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ}، (سورة الشعراء: 186-187).

وبعد تكذيبهم للرسالة وإصرارهم على الانحراف جاءهم عذاب الله - سبحانه - الذي أنهاهم عن بكرة أبيهم بعد خروج شعيب، عليه السلام، ومن آمن معه، حتى كأن أحداً لم يكن في تلك الديار، قال الله سبحانه : {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}، (سورة هود: 95).

 

 التطفيف والبخس بنسخته الجديدة

في كتاب الله سبحانه آياتٌ تبين الأصول الاقتصادية في النظام الإسلامي الذي ينبغي أن تراعى في المجتمعات الإسلامية مثل قول الله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}، (سورة البقرة: 188)، وقوله عزّ من قائل: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُم‏}، (سورة النساء: 29).

وبإعطاء القواعد والقوانين الكلية تتضح للمتدبر جزئيات بعض تلك الأحكام، فحين ينهى القرآن عن أكل المال بالباطل فإنه يشمل كل نوعٍ من أنواع الاستيلاء غير المشروع على أموال الآخرين، ولو كان بدرهمٍ أو أقل من درهم، وحين ينهى القرآن - كما مرّ- عن خسران الميزان ويأمر بالقسطاس المستقيم كما في قوله سبحانه: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلا}، (سورة الإسراء: 35) فإنه يعني حرمة خسران غرامٍ واحد بغير رضا المشتري.

ومن هنا كان المؤمنون وما زالوا يحتاطون في أمر الميزان أشد الاحتياط فيزيدون في العطاء وينقصون في الأخذ - بعكس المطففين -، ولكن اليوم نلحظ عودة مشكلة التطفيف وخسران الميزان وبخس الناس أشياءهم في بعض مجتمعاتنا في الوقت الحاصر، ولا نحتاج إلى سوق أدلة وشواهد على هذا الأمر.

ولم تقتصر المفاسد الاقتصادية العائدة إلى السطح على صورها التقليدية القديمة بل أصبحت تنتشر بصورٍ حديثة ومتطورة كالتلاعب بالأسعار في المواسم المختلفة وزيادتها في موسم الطلب بصورة غير معقولة، كما يفعل بعض التجّار مع سلعهم في بدايات شهر رمضان المبارك، مستغلين حاجة الصائمين، أو قيام البعض من تصغير سلعته ليبيعها بسعر الكبيرة! وهذا ما سُئل عنه الإمام الكاظم، عليه السلام، حيث سأله الراوي عن قوم يصغّرون القفيزان يبيعون بها.

فقال، عليه السلام: «أولئك الّذين يبخسون النّاس أشياءهم»4.

وذكرنا للمصاديق الصغيرة ليست إلا لبيان خطر الموضوع وعظمه في الإسلام، فتحريم الغش البسيط والبخس البسيط بهذه الكيفية يدل على حرمة الفساد الاقتصادي في المستويات العليا، والتي لابد من اجتنابها جميعاً لكيلا يتهدم الكيان الاجتماعي كما تهدم كيان أهل مدين بعذاب الله الأليم.

----------------------------------------

(1) من هدى القرآن/ ج6 / ص 222

(2) المصدر نفس/ ج3 / ص 69

(3) من هدى القرآن/ ج3 / ص 70

(4) كنز الدقائق/ ج6 / ص 223.


ارسل لصديق